حسين عبدالحسين
أعنت هوليوود أن الممثلة الإسرائيلية غال غادوت ستلعب دور كليوباترا في فيلم سينمائي مقبل، فثارت ثائرة أشاوس مقاومة "الاستيلاء الثقافي" لاعتقادهم أن كليوباترا كانت ملكة مصرية، وتاليا عربية، وأن الأفضل أن تؤدي دورها ممثلة عربية، بدلا من الإسرائيلية غادوت، التي يراها أشاوس "الاستيلاء الثقافي" مع "الرجل الأبيض" الاستعماري.
المشكلة تكمن في انعدام الثقافة التاريخية لدى شرطة مكافحة "الاستيلاء الثقافي"، فلا كليوباترا كانت عربية، ولا الإسرائيليون أوروبيين، حتى لو أن الرواية التقليدية الفلسطينية تعتبر أن الشعب الإسرائيلي الحالي ينحدر بأكمله من جذور أشكنازية، أي يهودية أوروبية، وهذا غير صحيح، لأن نصف اليهود الإسرائيليين ينحدرون من جذور عربية.
حضارة وادي النيل الفرعونية لم تكن عربية. صحيح أن اللغة الفرعونية تنتمي إلى أسرة اللغات الأفرو آسيوية، شأنها شأن اللغات السامية مثل العربية والعبرية، إلا أن هذا العنصر المشترك يكاد يكون الوحيد بين الحضارتين الفرعونية والعربية، بل أن حضارة الفراعنة ـ في القرون الأخيرة لوجودها ـ امتزجت بحضارتي اليونان وروما، فانحدرت كليوباترا من البطالمة، وهم من نسل بطليموس خليفة الإسكندر المقدوني، الذي أعطى اسمه للإسكندرية. كليوباترا صادقت مارك أنطوني، الجنرال في جيش يوليوس قيصر الروماني، إلى أن هزمهما أوكتافيوس أوغسطس.
وعندما باشر الفرنسي جان فرنسوا شامبليون بتفكيك رموز الهيروغليفية، استند إلى حجر الرشيد المنقوش باللغتين الفرعونية واليونانية، إذ لا تواصل زمني بين الفرعونية والعربية، حتى أن الروايات تقول إنه بعدما عجز عن فك طلاسم اللغة الفرعونية، أمر الخليفة العباسي المأمون بدكّ هرم الجيزة بالمنجنيق، واستخدم المصريون الأهرام كمقالع حجارة لقرون، إلى أن وصل "الرجل الأبيض" الفرنسي مصر، وفكك رموز التاريخ، وأقنع المحليين العرب بضرورة الحفاظ عليه.
لا عرب ولا عروبة في قصة حياة كليوباترا، باستثناء سيطرتها، بالاشتراك مع عشيقها الروماني مارك أنطوني، على مناطق في المشرق العربي، بما في ذلك أراض تابعة للعرب النبطيين والتدمريين. والعرب نظروا إلى كليوباترا بإعجاب، حتى أن ملكة تدمر، زنوبيا ـ زوجة الملك أذينة وأم ولي العهد وهب الله ـ صوّرت نفسها على شكل كليوباترا.
وفي التاريخ الأساطيري، المبني بعضه على وقائع تاريخية، كان سليلو إبراهيم، أي العبران والعربان، يسيّرون قوافل تجارية من المشرق إلى وادي النيل، حيث باع العرب يوسف، وهو عبراني إسرائيلي غير يهودي، إذ أن اليهود ينحدرون من نسل أخيه غير الشقيق يهودا.
لكن الحروب والمواجهات بين العرب والإسرائيليين، التي سبقت وتلت قيام دولة إسرائيل، حوّلت التاريخ إلى أداة مواجهة، فرفض العرب الربط بين إسرائيليي الماضي، الشعب السامي الذي يشترك مع العرب بتاريخ طويل، وإسرائيليي اليوم، وأصرّوا على اعتبار أن إسرائيليي اليوم هم شعب أوروبي أبيض مستعمر، لا علاقة له بالسامية ولا بتاريخ المشرق ومصر، ما يجعل من إسرائيل دولة أوروبية كولونيالية دخيلة على المنطقة وتاريخها وحضارتها، وهذه نظرية عسكرية حزبية أكثر منها تاريخية أكاديمية.
كذلك رفض العرب المسلمون مقولة إن كلمة إسرائيل نفسها واردة في القرآن حوالي أربعين مرة، وقالوا إن شعب إسرائيل القرآني هو في سياق الأساطير الدينية، ولا علاقة له بإسرائيل اليوم. لكن المسلمين أنفسهم لجأوا إلى القرآن لتأكيد قداسة الأرض عندهم، وقدموا سورة الإسراء كدليل على أن رسول المسلمين زار القدس. وتضيف الأحاديث النبوية أنه امتطى في رحلة الإسراء من مكّة إلى القدس براقا. والبراق هو حصان مجنّح من الجنة، قام الرسول بربطه قرب حائط المبكى اليهودي، فصار اسمه "حائط البراق" عند المسلمين، قبل أن يعرج الرسول من القدس إلى السماء، ويعود.
لا يرد في سورة الإسراء ذكر رسول المسلمين باسمه، محمد، ولا يرد ذكر اسم مدينة القدس، بل تقول الآية "سبحان الذي أسرى بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى". حتى كلمة مسجد لها تأويل، إذ يتم تفسيرها على أنها تعني مكان سجود فحسب، لا مبنى على شكل المساجد الإسلامية المعروفة، إذ أنه في حياة محمد، كانت القدس تحت حكم بيزنطي مسيحي، ولم يكن فيها مساجد. لكن على الرغم من كل التأويلات والتفسيرات الأساطيرية، يقبل المسلمون رواية أن رسولهم زار القدس على ظهر حصان مجنح، ويرفضون الربط بين إسرائيليي اليوم وإسرائيليي القرآن الذين عاشوا في الجليل في زمن المسيح. أي قبل ستة قرون فقط من ظهور الإسلام ورسوله.
تقفز شرطة مكافحة "الاستيلاء الثقافي" مجددا إلى الواجهة في موضوع الإسرائيليين، وتصرّ أن إسرائيل ومسيحيي الغرب يصادرون المسيح، لأن المسيح كان فلسطينيا داكن البشرة، ولم يكن إسرائيليا "أوروبيا" من ذوي البشرة البيضاء.
لكن القرآن يصف المسيح على أنه كان من بني إسرائيل ومبعوثا إليهم مصدقا لما بين أيديهم من كتب سماوية، كالتوراة. في إسرائيل اليوم، شعب يتكلم لغة سامية قريبة جدا من العربية، نصف الشعب ذات جذور عربية، وهو يسمي نفسه إسرائيل، ويسمي كتابه التوراة، ومع ذلك، يقول العرب إن لا شعب إسرائيل إسرائيليا ولا هو الذي ورد ذكره في القرآن، وهو القرآن نفسه الذي لم ترد فيه تسميات مثل العرب أو فلسطين.
كليوباترا لم تكن عربية، بل كانت يونانية مصرية، والمسيح لم يكن فلسطينيا، بل كان عبرانيا من بني إسرائيل، وبني إسرائيل ليسوا من المجر أو بولندا أو روسيا البيضاء، بل مشرقيين سكنوا حوض الأردن، وانتشروا منه إلى العالم، وانتشرت ديانتهم، وكما يعتقد الهندي المسلم أن مكة أرضه المقدسة، يعتقد اليهودي النمساوي أن القدس أرضه المقدسة.
هو تاريخ عاش فيه المسيح، الإسرائيلي، تحت سلطة حاكم الجليل هيرود انتيباس، الإسرائيلي، وزوجته فصائل العربية، بنت الملك النبطي الحارثة الرابع. وعندما طلّق انتيباس زوجته وقتل يوحنا المعمدان، اجتاحت قوات الحارثة أراضي الملك اليهودي، وهلل الإسرائيليون المسيحيون لانتقام ملك العرب من حاكمهم.
الأرض وتراثها وتاريخها اليوم هي للعرب والعبران وكل من يعيش عليها، وكليوباترا تراث عالمي، يمكن أن تلعب دورها إسرائيلية، أو إماراتية، أو أوزبكية، وما الحديث عن "استيلاء ثقافي" إلا جهل بالتاريخ، وإمعان في العنصرية، فيما المطلوب شراكة في التاريخ والعيش سوية في المستقبل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق