الثلاثاء، 6 أكتوبر 2020

سلام الشجعان بين إسرائيل ولبنان

حسين عبدالحسين

في خطوة نادرة، أعلن لبنان الموافقة على ترسيم حدوده البحرية والبرية مع إسرائيل، وعلّل رئيس البرلمان نبيه بري الموافقة بالقول إنها لأسباب اقتصادية، إذ تشكل الحدود الجنوبية البحرية الأمل الأخير للبنانيين في العثور على مخزون غاز كاف لاستغلاله تجاريا، والإفادة من عائداته بالعملات الصعبة للتخفيف من حدة الانهيار الاقتصادي في البلاد.

والموافقة اللبنانية هي فعليا موافقة "حزب الله"، واعتراف منه بوجود دولة إسرائيل، وبضرورة التفاوض معها كوسيلة لحل النزاعات، بدلا من الانخراط ضدها في حروب دموية عبثية، وهو انقلاب غير معلن في موقف الحزب اللبناني الموالي لإيران، والذي يحكم لبنان بقوة السلاح.

في العام 1982، بعد طرد الإسرائيليين الميليشيات الفلسطينية التي كانت تشن من لبنان عمليات عسكرية ضد إسرائيل، وقع اللبنانيون والإسرائيليون اتفاقية 17 أيار ـ مايو للسلام بين بلديهما، لكن رئيس سوريا الراحل حافظ الأسد قام بنسف هذه الاتفاقية للإبقاء على لبنان ورقة في يديه لابتزاز إسرائيل والغرب.

وبعد خروج التنظيمات الفلسطينية إلى تونس، خلّفت وراءها كوادر لبنانية مدرّبة كانت انخرطت في العمل المسلح مع الفصائل الفلسطينية المتعددة والمتناحرة. تلك الكوادر اللبنانية هي التي شكّلت نواة "حزب الله"، وتابعت الصراع المسلح ضد الإسرائيليين، وأجبرتهم على البقاء في لبنان للدفاع عن أمن الحدود الشمالية لإسرائيل. ومع نهاية الحرب الأهلية اللبنانية، حاولت إسرائيل، مرارا، الانسحاب من لبنان وفقا لقرار مجلس الأمن رقم 425، شرط ضمان بيروت أمن الحدود.

لكن بيروت رفضت أي حوار يفضي لانسحاب، وآثرت مواصلة الحرب، فبيروت كانت مغلوبا على أمرها، يحكمها من يعتاشون على الحروب، أي نظام الأسد في دمشق حتى العام 2005، وبعده "حزب الله"، الذي ورث الوصاية على دولة لبنان. لهذا، عاش لبنان، بعد نهاية حربه الأهلية، تسع سنوات إضافية من الحرب العبثية مع إسرائيل، قبل أن يتحول إلى قاعدة صاروخية لإيران لابتزاز إسرائيل، على حساب استقرار البلاد والاقتصاد، وعلى حساب اللبنانيين وحياتهم.

وبوسائل القمع والتهديد، حظر "حزب الله" على اللبنانيين التلفظ بعبارة "سلام لبناني مع إسرائيل"، أو حتى هدنة، ويوم قام نفر من الناشطين بفتح نقاش عام حول الهدنة، هدم بلطجية "حزب الله" مكان اللقاء على رؤوس الحاضرين. حتى مطالبة بطريرك الموارنة بشارة الراعي بـ "الحياد الإيجابي" مع إسرائيل، أي العودة إلى هدنة الأمم المتحدة للعام 1949، لم تعجب "حزب الله"، فشنت وسائل إعلامه حملة تخوين ضد بطريرك المسيحيين، فيما جلس "حامي مسيحيي المشرق" ميشال عون في قصر الرئاسة يخبر اللبنانيين أنهم ذاهبون إلى الجحيم.

حققت حملة "حزب الله" بعض النتائج مع الرأي العام اللبناني، وأظهرت نتائج استطلاع قام به مركز "الباروميتر العربي" أن واحدا بين كل أربعة فلسطينيين يعتقدون أن "التنسيق العربي مع إسرائيل أمر جيد"، فيما أثنى واحد من كل خمسة لبنانيين على التقارب مع إسرائيل، وهو ما يطرح السؤال التالي: هل يُعقَل أن نسبة المؤيدين للسلام بين الفلسطينيين، وهم المعنيين الأساسيين في موضوع العلاقة مع إسرائيل، أعلى من نسبة اللبنانيين؟ وهل يُعقَل أن اللبنانيين يعارضون السلام أكثر من الفلسطينيين أنفسهم؟ لماذا يكون اللبنانيون "ملكيين أكثر من الملك"؟ 

على أنه بقبوله الحوار مع إسرائيل، يكون "حزب الله" قد وافق على سيادة إسرائيل على هذه الحدود، والسؤال هو، لماذا تراجع الحزب؟ السبب يتعلق غالبا بالمصلحة الذاتية، فلبنان يهتز تحت أقدام حزب الله" بسبب الانهيار الاقتصادي، ولا بد من التفكير ببعض العقل، بدلا من العاطفة، وبعيدا عن العقائدية الفارغة والشعارات.

وليت عقلانية "حزب الله" هذه تنسحب على سياسته بشكل عام، وليته يعيد قراءة تاريخ العقود الأخيرة من الصراع العربي الإسرائيلي ليرى أن لبنان عاش في بحبوحة في سني بقائه خارج الصراع، أي بين 1949 و1969، فيما عانى لبنان انهيارا متواصلا منذ 1969 وحتى اليوم بسبب انخراطه في حرب لا آخر لها ضد إسرائيل.

وليت الحزب يعيد النظر بانتصار "التحرير"، أي انسحاب الإسرائيليين من لبنان في العام 2000، ليرى أنه انسحابا تأخر بلا لزوم، وكلّف اللبنانيين أرواحا بشرية وثروة مادية، بسبب سياسات الصراخ والصواريخ. وليت الحزب يرى أن "انتصاره الإلهي" خسارة فادحة، وأنه كان يمكنه تحرير اللبنانيين في السجون الإسرائيلية بالتفاهم مع إسرائيل بدلا من الحرب المدمرة معها. وليت نصرالله يدرك أنه لن يصلي في القدس في حياته بفضل صواريخه، بل أن السلام وحده هو الذي يفتح الباب له ليصلي في مسجد عمر وفي باحة مسجد قبة الصخرة الأموي.

لو سادت العقلانية في صفوف اللبنانيين وحاكمهم نصرالله، لمضوا قدما في تقديم مصلحتهم على عاطفتهم، وعلى مصلحة الفلسطينيين، فمصلحة لبنان تكمن في سلام مع كل دول العالم، بما فيها إسرائيل، ويمكن إذ ذاك وصل "أوتوستراد الجنوب" في الناقورة اللبنانية بطريق إسرائيل الساحلي السريع في رأس الناقورة "روش هانيكرا" الإسرائيلية، والبدء بتعاون اقتصادي وثقافي وتكنولوجي وغيره، وهو ما يفتح نافذة أمل ليخرج اللبنانيون من الجحيم، بدلا من خروجهم من لبنان.

في التاريخ السحيق، كان الكنعانيون الصيداويون، المعروفون بالفينيقيين، يتمتعون بشراكة تجارية مثمرة مع الإسرائيليين، حتى غزت آلهة الفينيقيين وقصصهم وقصص ملوكهم التوراة، وهو الكتاب الذي يأتي منه اسم لبنان. ويوم مشى المسيح في الجليل، كانت فصائل النبطية العربية هي زوجة الملك الحاكم هيرود انتيباس اليهودي، ولما طلّقها، انتقده يوحنا المعمدان، فقتله انتيباس، وانتقم ملك العرب الحارثة لابنته وليوحنا من انتيباس.

هكذا هو التاريخ منذ ثلاثة آلاف عام، تجارة وتزاوج وود بين الفينيقيين واليهود والعرب، فخصام وانتقام وحروب، فود وتعاون مجددا، في دورة لا تنتهي، وحرب لا تدوم. حوار الترسيم اللبناني مع إسرائيل خطوة ممتازة، ولا ضير من توسيع الحوار لتحقيق السلام الكامل والشامل بين لبنان وإسرائيل، سلام الشجعان، حسب تعبير الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.

ليست هناك تعليقات:


Since December 2008