حسين عبدالحسين
ينقل باحثون عن وزير الخارجية السابق هنري كيسنجر قوله: إن الغرب ليس مستعدا للتعامل مع التغيرات العالمية، وخصوصا الشرق أوسطية: «بعدما تغيرت قوانين اللعبة بعد الحرب الباردة، في وقت لم ينجح الغرب في خلق منظومة جديدة في سياسته الخارجية تتناسب والتغيرات». القوانين الماضية، حسب كيسنجر، كانت تتمحور حول احترام معاهدة ويستفاليا التي تقضي باحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها.
لكن النقاش حول ويستفاليا غالبا ما يعيد طرح السؤال القديم الجديد نفسه: هل كان الغرب أو الولايات المتحدة سيتفرجان على الزعيم النازي أدولف هتلر وهو يرتكب المجازر بحق فئات من شعبه لو لم يبادر الأخير إلى إعلان الحرب ضد الغرب؟
الإجابة غير ممكنة خارج إطار التكهنات، ولكن بعض الخبراء يرغبون، من حين إلى الآخر، دراسة السيناريو البديل، أي أن لا يعلن هتلر أو حلفاؤه الحرب على فرنسا وبريطانيا ولاحقا أميركا، ما يعني أنه كان يمكن له أن يستمر في حكمه لزمن طويل، وربما نشر عقيدته وإقامة حكومات مشابهة لمنظومته حول العالم.
ويقول الدارسون إن الإطاحة بالنازية واستبدالها بالديمقراطية في ألمانيا كان «نتيجة جانبية» لمواجهة كبرى بين إمبراطوريات، وإن هذه المواجهة لم يكن سببها غياب الديمقراطية أو الانتقاص من حقوق الإنسان في ألمانيا وإيطاليا، بل بسبب أفكار المحور التوسعية، ومبادرة دوله إلى شن الهجوم العسكري.
في السياق نفسه جاءت مواجهة الغرب مع الاتحاد السوفياتي وكتلته، فالمواجهة كانت بين حكومات، ثم نجحت الولايات المتحدة في الستينات والسبعينات في التوفيق بين «مبادئها ومصالحها» في السياسة الخارجية، فالاتحاد السوفياتي كان قوة منافسة، ولكن المواجهة معه أخذت أيضا طابعا مثل حماية حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية، وهو ما حاول الغرب فعله على أثر انهيار المنظومة السوفياتية.
لكن تجربة انتشار الديمقراطية في روسيا والدول الاشتراكية السابقة، رغم أنها بدت انتصارا للديمقراطية الليبرالية في مطلع الأمر، تبين في وقت لاحق أنها أعادت إنتاج النخب المتسلطة نفسها، وأبقتها في الحكم، مع فارق وحيد أن هذه النخب صارت تستخدم صناديق الاقتراع والإعلام لإسباغ الشرعية على تفردها في الحكم، بدلا من اعتمادها على سطوة أجهزتها البوليسية لفرض سيطرتها الدائمة كما في الزمن الشيوعي الغابر.
هذا النوع من الديمقراطية في روسيا ومعظم الدول الاشتراكية السابقة، ينتشر في بعض الجمهوريات العربية كذلك، خصوصا بعد «الربيع العربي»، وهو ما يطلق بعض الباحثين الأميركيين عليه اسم «الديمقراطية التقليد».
وتقول كبيرة الباحثين في «معهد كارنيغي للسلام» ليليا شيفتزوفا إن أكبر خطر يواجه الديمقراطية حول العالم هو «الديمقراطية التقليد»، أي «بروز أنظمة جديدة تستخدم المؤسسات الديمقراطية وخطابا ديمقراطيا للحفاظ على مصالح شخصية أو فئوية».
وتتابع الكاتبة في مقالة في مجلة «ذي أميريكان إنتيريست» اليمينية الرصينة أنه «لا يوجد شك بعد الآن أن تقليد الديمقراطية يخلق أنظمة هجينة تجمع بين الديكتاتورية والديمقراطية، وهو أمر صار يهدد مصداقية الديمقراطية حول العالم ويضعفها أكثر بكثير من الدور الذي تقوم به الأنظمة الاستبدادية في هذا الإطار»، ما يعني «أنه حان الوقت للاعتراف بأنه يمكن استخدام المؤسسات الديمقراطية من أجل الغرور الشخصي والمصالح الفردية».
هذا النوع من النقاش بدأ قبل سنوات، خصوصا بعدما تراجع الشهير فرانسيس فوكوياما عن نظريته القائلة بنهاية التاريخ وانتصار الديمقراطية الليبرالية. وفي عام 2010. في بحث في «دورية الديمقراطية»، راح فوكوياما يبحث عن سبب فشل نشر الديمقراطية، وكانت إحدى النتائج التي توصل إليها اعتباره أن التركيز على صناديق الاقتراع وحدها كان خاطئا، وأنه كان يجب الالتفات إلى «حكم القانون» في هذه الدول، وأنه في غياب القانون يمكن إفراغ الديمقراطية من مضمونها، ويمكن للحاكم المنتخب استخدام القضاء لمصلحته، وفي سبيل إخراج خصومه السياسيين من اللعبة السياسية وإضفاء الشرعية على أحكامه.
لا شك أن معظم نماذج فشل الديمقراطية متوفرة في الجمهوريات العربية، لكن للأسف لا يتوفر النقاش المطلوب لإصلاحها أو تصويبها، فيما يبدو أن الباحثين الغربيين يسعون، كما في الماضي، لفهم التغيرات التي تعيشها بعض الدول العربية، والمحاولة لتقديم اقتراحات لسياسات حكوماتهم الخارجية لعلها تصبح مستعدة يوما ما للتعامل مع كل هذه التغيرات المتسارعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق