حسين عبدالحسين
كتب أبو العبّاس أحمد اليعقوبي، المتوفى سنة 897 ميلادية، أنه اختار أن يفتتح "كتاب البلدان" الذي ألّفه بذكر بغداد، لأنها كانت في زمانه "المدينة العظمى، التي ليس لها نظير في مشارق الأرض ومغاربها سعة، وكبرا، وعمارة"، ولأن "سكنها من أصناف الناس، وأهل الأمصار، والكور، وانتقل إليها من جميع البلدان القاصية والدانية، وآثرها جميع أهل الآفاق على أوطانهم، فليس من أهل بلد إلا ولهم فيها محلة، ومتجر، ومتصرّف، فاجتمع بها ما ليس في مدينة في الدنيا".
ونقل اليعقوبي عن الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور، الذي تحاول الميليشيات العراقية الموالية لايران اقتلاع تمثاله في بغداد انتقاما لتاريخه المعادي لأئمة الشيعة، أنه يوم وقف المنصور في بغداد، قال إنه اختارها لتكون عاصمة الإمبراطورية الإسلامية لأنها "جزيرة بين دجلة والفرات… مشرعة للدنيا، كل ما يأتي في دجلة من واسط والبصرة والأبلة والأهواز، وفارس وعمان واليمامة والبحرين وما يتصل بذلك، فإليها ترقى، وبها ترسى".
وأضاف المنصور، حسب اليعقوبي، أنه اختار بغداد كذلك بسبب كل البضائع التي تردها من "الموصل وديار ربيعة وأذربيجان وأرمينية، مما يحمل في السفن في دجلة… وما يأتي من ديار مصر، والرقة والشام والثغر ومصر والمغرب مما يحمل في السفن في الفرات".
يوم كانت الحضارة العربية في ذروتها، كانت بغداد عاصمة العالم، ومركز تجارته، وقبلة المهاجرين والباحثين عن حياة كريمة. وعلى عكس بعض الحضارات المجاورة، مثل الإيرانية، التي مجّدت الفروسية والحرب واحتقرت التجارة وأصحاب الحرف، أعلت الحضارة العربية من شأن التجارة، وبارك بها الاسلام.
لا يذكر القرآن ولا تراث المسلمين، أن رسولهم اشتهر لكونه محاربا أو غازيا، على عكس جد السلالة العثمانية التركية الغازي عثمان. كان رسول المسلمين تاجرا، اقترن بخديجة وأدار لها تجارتها، وسيّر قوافل إلى الشام واليمن، وهي التجارة التي أطعمت قريش من جوع.
الأرض العربية قاحلة بغالبها، وبالكاد تطعم سكانها. لذا، أدرك العرب أن خلاصهم في التجارة، واستغلوا موقع ديارهم بين قارتي الهند وأوروبا ليديروا الرحلات التجارية في الاتجاهين ويثروا أيّما ثراء. هكذا فعل نبط الأردن، ومثلهم فعل تدمريو سوريا، وعرب الخليج، وهكذا أعلن العباسيون بغداد مدينة السلام، لأن السلام شرط التجارة والازدهار.
وهكذا حاول رئيس حكومة لبنان الراحل تحويل بيروت إلى مدينة سلام، حتى يُثري لبنان من التجارة. لكن الحريري دفع حياته ثمنا لمشروع أجهضه من يرون في الحرب كرامة وشرفا يرقيان على السلام والبحبوحة.
وهكذا حاولت الإمارات العربية المتحدة، ونجحت، في استعادة دور العرب التجاري التاريخي، وحوّلت مدنها — دبي وأبو ظبي — إلى عواصم سلام وتجارة وازدهار، وصارت الإمارات، كبغداد العباسيين، قبلة المهاجرين، وملتقى الحضارات، ومركز التجارة.
بعد الامارات، أدركت دول الخليج الأخرى أهمية هذا النموذج التجاري العربي، فأعلنت السعودية "رؤية 2030"، القاضية باستبدال اعتماد اقتصاد المملكة على النفط باقتصاد يعتمد على السياحة وتصدير الخدمات التعليمية والاستشفائية والمصرفية والمالية وغيرها.
ومثلها فعلت الكويت، التي أعلنت "رؤية 2035" الساعية إلى استبدال اعتمادها على النفط بإقامة "مدينة حرير" على رأس الخليج تلعب الدور الذي لعبته بغداد قبل 1250 عاما، ولعبته قبلها محمرة الأهواز في القرنين اللذين سبقا وتليا التأريخ الميلادي.
قبل أسبوعين، استقبل ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، نظيره الكويتي، نواف الأحمد، وحسب سفير الكويت في السعودية، علي الخالد، توافق الزعيمان على أن "التنوع الاقتصادي يعد هدفاً مصاحباً لخطط التنمية المتتابعة لضمان استدامة الاقتصاد… وتقليل الاعتماد على النفط كمصدر وحيد قابل للنضوب".
وأضاف الخالد أن الضيف الكويتي أشاد بمبادرة "الشرق الأوسط الأخضر" التي يقترحها ولي العهد السعودي، مبديا استعداد الكويت للتعاون مع السعودية لتحقيق أهداف هذه المبادرة.
في العالم نماذج ثلاثة في الحكم، الأول: هو الغربي القائم على الحريات والديموقراطية والاقتصاد الحر، والثاني: الصيني القائم على إدرة الدولة للاقتصاد حتى ينمو فيؤدي النمو لأمن اجتماعي واستقرار، والثالث: هو الريعي مثل روسيا وإيران، وهو الذي يحتكر الموارد القليلة، إن كانت من عائدات صادرات المواد الأولية أو من الفساد، لتمويل نظام قمعي يفرض الاستقرار فوق جثث من ماتوا من العوز والجوع.
يدرك العرب المتنورون اليوم أن أهمية النفط، وتاليا الاقتصاد الريعي، تنحسر عالميا، وأن البديل الوحيد المتاح في منطقة تعاني من شح في المياه والمواد الأولية هو العودة إلى ما درج عليه الآباء والأجداد، أي إعلان مدن العرب مدن سلام، وفتحها للقاصي والداني، واعتماد التجارة كمصدر رئيسي للنمو الإقتصادي بدلا من النفط.
أما عرب إيران، فهم مثل إيران، يهددون العالم بالعنف مقابل السماح لهم ببيع النفط وتمويل الأنظمة وأجهزتها القمعية التي تحافظ على الاستقرار عنوة في غياب الأمن الاجتماعي بسبب انتشار الفقر.
الحريري حاول وفشل، والإمارات حاولت ونجحت، والسعودية والكويت تسعيان لتكرار النموذج الإماراتي. أما باقي العرب، فينشغلون في الصراخ، وأناشيد البطولة، وخطابات مكافحة الإمبريالية، وسائر الشعارات التي لا تغني ولا تسمن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق