جريدة النهار
للأقليات العرقية والدينية أنماط متشابهة في السلوك السياسي، فهي تختصر تاريخها بمحطات مجيدة وغالبا متخيلة، وتنصّب اميراً او اكثر في التاريخ وتنسج لهم سيرة تقارب القداسة. وغالبا ما تصور الاقليات نفسها موضع هجوم من مجموعات سكانية اخرى تعتبرها ادنى منها حضاريا، كما تعتبر الاقليات ان تزايد أعداد الآخرين هو بمثابة تهديد وجودي لها.
التغيير الديموغرافي غالبا ما يكون حتميا ويصعب وقفه او عكسه، وهو يؤدي الى استبدال نفوذ الاقلية المتهالكة بنفوذ أكثرية صاعدة، ما يدفع الاقلية الى محاولة ابعاد الكأس المرّة عنها، فتتمسك بماضيها، وتحاول اعادة احيائه على شكل حاضر لا يتسع للقادمين الجدد، وهنا ينشأ صراع بين مجموعتين: الاكثرية السابقة والاكثرية الحالية. اما التمسك بالماضي فهو الذي يجعل من غالبية الاقليات يمينية محافظة سياسيا، ويجعل من المجموعات المتكاثرة والمطالبة بالتغيير يسارية حكما.
في الولايات المتحدة، تشير الاحصاءات السكانية التي تجرى كل عقد الى حتمية خسارة البيض اكثريتهم السكانية التي تمتعوا بها على مدى القرنين الماضيين. اما المجموعات الاميركية الصاعدة فهي التي تنحدر من جذور اميركية لاتينية وشرق آسيوية.
وما يقلق غالبية بيض اميركا هو ان انحسار نسبتهم سكانيا بدأت تؤثر سلبا في وزنهم الانتخابي، وتاليا السياسي، وهو ما اجبرهم على الانقسام الى مجموعتين. الاولى، وهي "الاستابلشمنت" في الحزب الجمهوري، تعتقد ان على الحزب ان يواكب التغيير ويفتح ذراعيه للمجموعات العرقية والدينية المختلفة، كما عليه ان يتبنى التغيرات المجتمعية مثل قبول حقوق المثليين والاجهاض.
اما المجموعة الثانية، المعروفة بتيار "حزب الشاي"، فترى ان الحل يكمن بالمزيد من التشدد، والحد من الهجرة الوافدة، وفرض قوانين صارمة على كيفية التصويت الانتخابي لعرقلة الكتل الناخبة من غير البيض، ووقف التمويل الحكومي للفقراء وللتعليم الرسمي، والالتزام بتطبيق "التقاليد اليهو- مسيحية" مثل فرض الصلاة الصباحية في المدارس الحكومية.
المشكلة ان انصار "حزب الشاي" هم عادة اكثر عقائدية ونشاطا ومشاركة في الانتخابات الحزبية، وهو ما يعطيهم حجما اكبر بكثير من الواقع. هذا الحجم يفرض على كل المرشحين الحزبيين الجنوح يمينا للفوز بترشيح حزبهم، ما يقلص من حظوظهم في الانتخابات العامة حيث الوسطية هي الغالبة.
لهذا السبب، يحافظ الحزب الجمهوري على غالبية مجلس النواب في الكونغرس، حيث الدوائر فردية وصغرى، ويتعثر في انتخابات مجلس الشيوخ التي تجري على مستوى ولاية، كما يتعثر في انتخابات الرئاسة التي تجري على مستوى البلاد. وكانت انتخابات 2012 شهدت حصول الديموقراطيين على اجمالي اصوات اكثر، لكن ذلك لم يمنحهم غالبية مجلس النواب في الكونغرس بسبب القانون الانتخابي.
على ان "الاستابلشمنت" الجمهوري يبدو ان كيله طفح من الاقلية المتطرفة، التي كادت تطيح بالاقتصاد الاميركي لولا استدارة الربع ساعة الاخيرة التي قام بها رئيس الكونغرس جون باينر، ابن الاستابلشمنت، الذي اتكأ الى اصوات الديموقراطيين لرفع سقف الاستدانة، وهو ما قد يكلفه منصبه، لكن باينر اثبت ان حفاظه على المصلحة الاميركية يأتي قبل حزبيته وحسابات بقائه في السلطة.
ذعر الاقلية الاميركية يتطابق مع ذعر الاقليات في دول اخرى، منها لبنان، مع فارق ضعف الاستابلشمنت وغياب شبيه لباينر بين مسيحيي لبنان.
اما اوجه الشبه بين الاقليتين فكثيرة، فمثلما تمجد الاقلية الاميركية البيضاء معركة الاستقلال (التي كانت شرارتها رمي الثوار لاكياس الشاي في مرفأ بوسطن في ما عرف بحفلة الشاي)، وتمجد ابا الاستقلال والرئيس الاول جورج واشنطن، والرئيس الراحل رونالد ريغان، وعقدي الخمسينات والثمانينات عندما شهدت البلاد طفرة بين الطبقة المتوسطة البيضاء وازدهار الضواحي اقتصاديا وسيطرة الجمهوريين سياسيا، كذلك تمجد الاقلية المسيحية اللبنانية الرئيس الرحل فؤاد شهاب كأب "لمؤسسات" الدولة، وبشير الجميل ومجتمعه ذا النقاء المسيحي الذي استمر حتى مطلع التسعينات.
وكما تبدي الاقلية الاميركية البيضاء تخوفا من المجموعات الاخرى، وخصوصا طرق معيشتها وثقافاتها، كذلك يخشى مسيحيو لبنان من المسلمين، تكفيريين ام على مذهب ولاية الفقيه، ومما يعتقدونه اسلوبهم المختلف في الحياة.
والخوف المجتمعي يفتح باب الشعبوية، فحزب الشاي يرى الوطن الاميركي ابيض خالصا على شاكلته ويتمسك بوطنية غامضة معانيها. كذلك عدد لا بأس به من مسيحيي لبنان يتمسك بطقوس مثل الارزة و10452 كلم2، مع غياب كامل لاي رؤية واضحة لمفهوم الوطن، ودور الدولة، وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية، ومبادئ تداول السلطة (حتى الحزبية) وحكم القانون والحرية الفردية، والمبادئ الاخيرة ضرورية لمصلحة الاقليات قبل غيرها.
كذلك يبدو الانعزال المجتمعي فكرة مقبولة لدى الاقليات، فحزب الشاي هو وريث الكونفدراليين المهزومين في الحرب الاهلية، ومعظم مناصريه ما زالوا يكنون افكارا انفصالية، او على الاقل يطمحون لتقليص دور الحكومة المركزية واعطاء دور اكبر لحكومات الولايات، والفكرة نفسها رائجة لدى كثيرين من مسيحيي لبنان الذين يغازلون باستمرار افكارا تقسيمية تراوح بين الفيديرالية والكونفيديرالية.
ان النتائج السياسية لذعر الاقليات هي نفسها، فمثلما يسيطر الجمهوريون على دوائر انتخابية صغيرة، كذلك الاقلية المسيحية اللبنانية تكتسح انتخابيا في اقضية مثل كسروان والمتن، ولكنها تعاني على مستوى لبنان ككل، مع انحدار سكاني يشير الى المزيد من التناقص في الوزن السياسي، ما يدفع الى توتر داخل المجموعة المسيحية التي تنقسم بين ضرورة الانفتاح المحدود على الآخرين، واخرى ترى في الدوائر المسيحية الخالصة مهمة اسهل انتخابيا، يكفيها خطاب شعبوي، ولا تتطلب تواصلا مع الآخرين.
ذعر الاقليات المختلفة ينتج سياسات متشابهة. اما الحل الامثل فقد يكون بضرورة الانفتاح ومواكبة التغيير، فالذي لا يتغير يموت، او هكذا يعلمنا المبدأ الدارويني الشهير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق