حسين عبدالحسين
عمد الفريق الأميركي المتابع للمفاوضات النووية مع إيران إلى القول للصحافيين في واشنطن، أثناء الجلسات العديدة المغلقة التي عقدها على مدى الأيام الماضية، إن الرئيس باراك أوباما أشرف شخصياً ووافق على النص النهائي للاتفاقية المؤقتة مع طهران.
طبعاً فات مساعدو الرئيس الأميركي القول إن واشنطن كانت وافقت على نص مغاير تماما في جولة 7 تشرين الثاني الماضية، وإنه لولا الإصرار الفرنسي، لما تراجعت إيران وقبلت باتفاقية تحصر تقريباً كل نشاطها النووي بمنشأة نطنز، وبتعليق شبه كامل للعمل في فوردو، وبوقف بناء مفاعل آراك.
التباين في النصين وقبول واشنطن بهما قد يشي بأن أميركا لا تكترث كثيراً للتفاصيل النووية أبعد من الإيحاء علناً بأن برنامج إيران النووي قد تم تجميده. أما سراً، فإن القنوات المتعددة بين واشنطن وطهران هي الضمانة، وهي التي ساهمت في التوصل الى تسوية، بدلاً من ان يؤدي العداء التاريخي بين البلدين الى عرقلتها.
الثقة المفقودة بين اميركا وايران منذ 34 عاماً، والتي يتحدث عنها أوباما دوماً، يبدو أنها لم تعد مفقودة، فالكثير تغير منذ اندلاع الثورة الايرانية وحتى اليوم: انهار الاتحاد السوفياتي، انتهت الحرب الباردة، وتحول النفط الى سلعة دولية من مصلحة الجميع - مصدرين ومستوردين - تدفقها إلى السوق. هذا التغيير، الذي طال أوجهاً عديدة من السياسة الخارجية الاميركية، لم يشمل علاقتها مع ايران طوال سنوات قبل أن يتبدل أخيراً.
لعل حلفاء اميركا الذين ينتابهم الخوف من ايران الاسلامية هم من ساهموا في ابقاء واشنطن متحفزة ومعادية لطهران. وكلما زادت حدة الخطاب الاميركي تجاه ايران، كلما خاف النظام الايراني من امكانية اقدام واشنطن على قلبه، فيما لم تسعف حربا العراق وافغانستان، وفي وقت لاحق ليبيا، في التخفيف من مخاوف حكام ايران من النوايا الاميركية والغربية ضد بعض الانظمة حول العالم.
لكن باراك أوباما وصل الى الرئاسة بتبنيه افكارأ في السياسة الخارجية هي بمثابة النقيض للافكار التي كانت سائدة حتى العام 2008.
قبل انتخاب أوباما رئيساً بأسابيع قليلة، بدأ السيناتور الجمهوري الذي كان أعلن نيته التقاعد وعدم خوضه اي انتخابات مقبلة جولة لتسويق كتاب مذكراته. ذلك السيناتور، تشاك هايغل، كان صديقاً مقرباً للسيناتور أوباما المرشح الرئاسي، ولا سيّما أثناء خدمة الاثنين في لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ. هايغل، وهو مقاتل سابق في فيتنام، جمع لنفسه ثروة بتأسيسه شركة اتصالات في الصين الشيوعية التي كانت اميركا انفتحت عليها في النصف الأول من السبعينات.
لم تتحول اميركا والصين الى افضل الاصدقاء دولياً، بل كللت المنافسة خطابيهما، واستمرت الهجمات الكلامية الصينية الشيوعية ضد أميركا ورأسماليتها. لكن ذلك لم يمنع البلدين من التحول إلى أكبر شريكين في التجارة العالمية، وهو ما قلّص من مخاطر الحرب بينهما، وسمح للاقتصاد الاميركي والشركات الاميركية بالاستفادة من الانفتاح، حسب رأي هيغل الذي كان يسوق كتابه حينها.
فكرة هايغل حول ايران هي التي تبناها أوباما، واضافها الى خطته لانهاء حربي العراق وافغانستان. صحيح ان وعد أوباما بإرسال وزيري خارجيته ودفاعه الى طهران لم يتبلور بعد، ولكن الفكرة لم تعد بعيدة، وفي اروقة القرار الاميركي حديث، وإن همساً، عن اختيار الحي الذي ستعيد واشنطن افتتاح سفارتها فيه في طهران وعن التأثير الاقتصادي الايجابي للانفتاح على ايران.
في الجلسات المغلقة، لا شعور أميركياً بالذنب تجاه الحلفاء. أميركا كانت حليفة اسرائيل والسعودية وايران وتركيا في الوقت نفسه حتى العام 1979، على الرغم من أن العلاقة بين هذه القوى تتقلب، منذ عقود، بين العداء والجفاء والصداقة.
حتى ذلك التاريخ، كان في مصلحة اميركا إبقاء الخلافات بين هذه الدول مضبوطة خوفاً من تسلل الشيوعية الى إحدها. اليوم، لا سبب يوجب على واشنطن تنظيم العلاقات بين هذه الدول.
إذاً أميركا لن تتدخل بعد الآن في صراعات الشرق الأوسط أو صداقاته، بل ستحافظ على علاقات ثنائية جيدة مع كل بلدانه بما يخدم مصلحتها المباشرة، وتحمي الأنظمة الصديقة من "أي خطر داهم".
أما هذا النوع من المخاطر فيتلخص بالأسلحة النووية والكيماوية، فإن تم سحبها، فلا ضرورة لاستخدام القوة العسكرية الاميركية. وما يرسخ من "عقيدة أوباما" هذه، هو التأييد الشعبي الساحق الذي تحوزه من الرأي العام الأميركي، ومن الحزبين.
في العلاقة مع ايران، ربما لم تكن أميركا تنتظر انتخاب حسن روحاني رئيساً، بل كانت تنتظر إعادة انتخاب أوباما، فهو في ولايته الثانية، شبه محصن في قراراته.
كذلك، ستمنح السنوات الثلاثة المتبقية في ولاية الرئيس الأميركي المدة الزمنية الكافية لبناء علاقة وثيقة مع إيران، فالرئيس يملك صلاحيات مطلقة في رفع كل العقوبات عن إيران بمراسيم تنفيذية يجددها سنوياً، حتى لو اعترض الكونغرس أو أقر عقوبات جديدة.
يبدو أن إيران كانت أول من فهم التغيير الاميركي الذي فرضته حربان مكلفتان. نظام إيران لا يخشى بعد الآن على وجوده وبقائه، ما يعني ان حاجته للسلاح النووي تلاشت، وما يعني ان الوقت حان للتفاوض حول هذا البرنامج والخروج بأكبر قدر ممكن من التسويات الاميركية والدولية مقابل التخلي عنه.
اسرائيل ستعترض. فهي تعترض أصلاً على معظم القرارات الأميركية إن كانت مبادرات سلام مع العرب، أو بيع سلاح أميركي نوعي للسعودية، أو حتى الإطاحة بأنظمة عربية صديقة أو عدوة تساهم في تثبيت أمن حدودها مع اسرائيل. ثم إن الاعتراض الاسرائيلي يسهل من تسويق الاتفاقية داخل ايران، حسب بعض المسؤولين الاميركيين.
ومع العلاقة الاميركية - الايرانية، يصبح ممكناً الحديث عن مصالح مشتركة اخرى، مثلاً في سوريا، وهذه فكرة وردت صراحة على لسان أكبر مسؤولي الخارجية في الجلسات المغلقة، على الرغم من أن هؤلاء يرددون في العلن إنه لا يمكنهم التكهن بانعكاس تقاربهم مع إيران على الأزمة السورية.
ختاماً، ستساهم الصداقة الاميركية الايرانية بعودة تدفق النفط الايراني، وتالياً تخفيض سعر النفط عالمياً، وهو ما يقلص من العجز التجاري الاميركي ويساهم في زيادة النمو الاقتصادي. كذلك، تقدم إيران، الثابتة أمنياً بسبب نظامها، فرصاً ممتازة للاستثمارات الخارجية، ومنها الأميركية.
كل هذه الأفكار تدور في أروقة القرار الأميركية منذ صيف العام 2008. اليوم، خريف العام 2013، بدأت بوادرها تلوح، وربما مع حلول الصيف المقبل، تتبلور نتائجها، أو هكذا يعتقد أوباما والمسؤولون في إدارته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق