حسين عبدالحسين
القراءة الشيقة التي قدمها الزميل زكي بيضون لكتاب "بدايات الإسلام، أوتاد لتأريخ جديد" للمؤرخة الفرنسية فرانسواز ميشو، تطرح المشكلة الشائكة التي تواجه عملية تدوين التاريخ، وخصوصاً الإسلامي، الذي ما زال في غالبه مبنياً على قصص الرواية التقليدية، التي لا تحتمل المساءلة لدى المقلّدين.
مشكلة التاريخ أنه يرتبط في ذهن غالبية البشر بالحاضر، فيلجأون اليه لإسباغ شرعية على حكومة أو حاكم أو فكرة أو دين، ويستخدمونه لتقريع وذمّ شخصية ما أو سلالة أو عقيدة، أو حتى لطلب محاسبة وتعويضات مالية ومعنوية، وهو ما يجعل الرواية التاريخية مرتبطة دوماً بميزان القوى لحظة التدوين.
وفي إخضاع الرواية الدينية الإسلامية لقواعد التأريخ الحديث، مشكلة ترتبط بخلط بعض المسلمين لأي فكرة مخالفة عما يعتقدونه، بالإساءات التي يتعمّدها البعض من أعداء الإسلام. هذا الخلط قد لا يكون بعيداً تماماً من الواقع. ففي العالم عدد لا بأس به من مدّعي التأريخ ممن يكتبون بقصد التجريح، مثل الأميركي روبرت سبنسر أو غيره من المسيحيين الغربيين أو الشرقيين، بمن فيهم بعض أقباط مصر، وهؤلاء من المغرضين الذين يحاولون استخدام التاريخ للتشكيك في المعتقدات الإسلامية أكثر منه لتقديم فرضيات أو قراءات تاريخية متجددة.
واختلاط التجريح بالعمل التأريخي نشر خوفاً لدى المؤرخين الأكاديميين الرصينين. حتى الزميل زكي نفسه استبق صلب مقالته بكتابة التدبيج التالي: "قبل البدء بالعرض وتفادياً للالتباس، من المفيد التوضيح أن كاتب هذه السطور ليس إلا ناقل محايد يحاول أن يكون أميناً".
أما مشكلة المؤرخين فتنقسم الى شقين: الأول أن غالبية المؤرخين من العرب والمسلمين لا تراعي أصول الكتابة التاريخية، والثاني أن معظم المؤرخين الغربيين يراعي أصول التأريخ لكنه – على الرغم من سعة اطلاعه وإتقانه للغات المشرقية – يبقون من المستشرقين ممن يعلمون شيئاً وتغيب عنهم أشياء.
حان الوقت للمؤرخين العرب القيام بعملية تنقيح وإعادة تدوين للتاريخ العربي الإسلامي. والمؤرخون العرب يعرفون الحيز الفاصل بين التأريخ والتجريح، ويعرفون الفارق بين التاريخ والعقيدة، ويمكن لهم أن يعملوا على إعادة كتابة مساحات واسعة من تاريخ العالم العربي من دون التطرق إلى مسائل العقيدة الإسلامية او المقدسات. وعلى الرغم من الانطباع السائد بأن التاريخ الإسلامي وحده بقي خارج المعالجة التاريخية، إلا أن الواقع يشي بأن تاريخ بيزنطية وفارس ومصر، بقيت أجزاء كبيرة منه أيضاً خارج المساءلة، وأن المؤرخين الغربيين تبنوا روايات كثيرة من دون اجراء التشكيك اللازم.
على سبيل المثال، تقول الرواية التاريخية المعتمدة إن الفرس، بعد فتحهم المشرق، مطلع القرن السابع، سرقوا صليب المسيح من القدس، وأن هرقل ملك الروم، بعد استعادته لأراضي بيزنطية، أعاد الصليب الى مكانه. لكن، في هذه الرواية مشكلة واضحة: فعلى اعتبار أن الفرس من الزرداشتيين، لماذا لم يحرقوا الصليب في مكانه بدلاً من تكبد عناء سرقته من القدس، والاحتفاظ به في بلدة أخرى، الى ان استعاده هرقل وأعاد نصبه في مكانه؟ أما الإجابة الأكثر منطقية، فتكمن في أن سارقي الصليب هم طائفة أخرى من المسيحيين، ربما من النساطرة الفرس، ممن كانوا يتخذون من مدينة غير القدس، كنصيبين، مقراً لهم، حيث نصبوا الصليب المسروق الذي أعادته جيوش هرقل، أو قوات حليفة له من طوائف شرقية أخرى نجح هرقل في تأليبها ضد الفرس، ودفعها الى الانتفاض على حكمهم، ووعدها بالتوصل الى تسوية كنسية عقائدية يقول التاريخ إنها لم تنجح.
رواية الصليب هذه مستقاة من مصادر بيزنطية، ولا شك أن في مصلحة مؤرخي هرقل إظهار بطولة إمبراطورهم، واستبدال فكرة الانتفاضة المسيحية ضد الحكم الفارسي والحرب الأهلية بين الطوائف المسيحية المتناحرة في المشرق، بفكرة أن ملك الروم اكتسح واستعاد وأعاد. وما الحب الكبير لهرقل في المصادر الإسلامية، سوى دليل آخر على أن الفتح العربي في المشرق كان على الأرجح انتفاضة ضد الفرس بتشجيع ودعم من هرقل، وهذه فرضية تحتاج الى بحث لا يتسع له هذا المقال.
وكما في الروايات البيزنطية المسيحية، تشوب بعض الروايات العربية الإسلامية مشاكل، منها التعثر في تحديد موقع "المسجد الأقصى"، الذي ورد ذكره في الآية الكريمة "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى". وفي التفسير أن المسجد الأقصى هو الموجود في القدس اليوم، لأن اسم القدس السابق للفتح العربي هو إيلياء بالآرامية، أو "بيت الله". لكن المشكلة تكمن في ان "بيت الله" لا تعني بالضرورة مسجداً، وهذه التسمية كانت تطلق على مدن عديدة قبل الإسلام.
على أن اعتبار أنه كان في القدس المسيحية مسجد، في زمن الرسول المتوفي سنة 632 ميلادية، قبل أن يفتح العرب المدينة في العام 638 ويبني الخليفة عمر ما يعرف اليوم بـ"مسجد عمر"، هو أمر يثير مشكلة في التدوين التاريخي، ويجبر المؤرخ على البحث عن مسجد آخر كان قائماً في حياة الرسول.
طبعاً، إعادة كتابة الرواية الحالية حول المسجد الأقصى دونها عقبات في زمننا هذا، بسبب الحساسية السياسية بين المسلمين وحكام المدينة اليهود. وقد يعتقد بعض المسلمين أن عدم تطبيق آية الإسراء على المسجد الأقصى هو بمثابة هدية لليهود، وهذا الاعتقاد هو بالضبط المشكلة التي تشوب كتابة التاريخ، حيث يجد المؤرخ نفسه مجبراً على التعاطي مع مشكلات سياسية آنية تفرض حجب أو تعديل التاريخ. لكن السيادة على القدس لا يجب أن ترتبط بتاريخ المسجد الأقصى أو باحتمال ذكره في القرآن من عدمه. فتاريخ العرب في المدينة يعود الى 14 قرناً، في أقل تقدير، وما مسجد قبة الصخرة، الذي شيده الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان أواخر القرن السابع، سوى شاهد أكيد على الجذور العربية للمدينة، ما يحرر محاولة تحديد "المسجد الأقصى" المذكور في القرآن من القيود، ويعطي المؤرخين حرية الاستمرار في البحث والتنقيب واستنباط فرضيات جديدة.
صليب هرقل، وتحديد جغرافية المسجد الأقصى، مثالان على إشكاليتين في التاريخ المستقى من مصادر مسيحية وإسلامية تحتاجان الى إعادة بحث وتدوين، والأمثلة المشابهة كثيرة. أما أعمال إعادة التدوين فشحيحة، أو يخاف أصحابها من أن يجدوا أنفسهم وسط صراع آني لم تكن نيتهم الدخول فيه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق