حسين عبدالحسين
نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تحقيقا مثيرا للاهتمام تناول قصة صحافية فنلندية، اسمها جيسيكا آرو، تعمل لوكالة إعلام رسمية في بلادها. السيدة آرو شعرت ان لموسكو جيشاً الكترونياً يعمد، عبر الانترنت من خلال مواقع اخبارية ومواقع تواصل اجتماعي، الى نشر اكاذيب وتقارير مفبركة حول الاوضاع في اوكرانيا.
وبعدما زارت آرو مدينة سان بطرسبرغ، ونشرت على اثر زيارتها تحقيقاً حول ماكينة التضليل الروسية، تعرضت لحملة مازالت قائمة ويشارك فيها المئات من اصحاب الحسابات المزورة ممن يتهمونها زوراً ويفبركون عنها روايات للنيل منها ومن مصداقيتها.
واللافت ان ابرز قادة الحملة ضد آرو هو فنلندي اسمه يوهان باكمان، الذي ينصب نفسه حامياً لبلاده في وجه انضمامها لتحالف الأطلسي. وباكمان يتحدث الروسية، ويدّعي انه يمول نشاطاته الاعلامية من جيبه الخاص، الا انه يبدو ان الناشط الموالي لروسيا يقضي وقته في موسكو حيث يطلّ عبر شاشات الاعلام الروسية المتنوعة “لفضح المؤامرات الغربية” ضد روسيا وفنلندا. كما يعمل باكمان ممثلا لـ “مركز الدراسات الروسية الاستراتيجية” لمنطقة اوروبا الشمالية، وهو مركز تموله الحكومة الروسية، ويعمل بأمرة ضابط سابق في الاستخبارات السوفياتية المنحلة “كي جي بي”.
ويبدو ان الماكينة الاعلامية الروسية جندت فنلندياً آخر يسكن في برشلونة الاسبانية، ويدير موقعاً اخبارياً، قام بالتحري عن تاريخ آرو، البالغة من العمر ٣٦ عاما، فوجد ان الشرطة غرّمتها ٣٠٠ يورو قبل ١٥ عاما لاستخدامها مخدر آمفيتامين. وحوّرت الماكينة الروسية قصة الغرامة، فاتهمت آرو على انها تاجرة مخدرات. ثم قام الجيش الالكتروني بنشر صورة لآرو وهي في رحلة سياحية الى بانغوك تظهرها وهي ترقص في لباس يظهر مفاتنها.
هكذا حوّلت ماكينة الدعاية الروسية، وتوابعها الفنلنديين، صحافية استقصائية حاولت كشف تزييف الروس لتقارير حول اوكرانيا الى ضحية للتزوير نفسه، وحوّل الروس آرو من صحافية الى تاجرة مخدرات وبائعة هوى مفترضة تعمل بأمرة قوى الاستعمار والامبريالية، أي اميركا ودول اوروبا الغربية، بهدف التآمر على روسيا عبر ضم فنلندا الى “تحالف الأطلسي”.
وتقول آرو انها تتلقى اتصالات في ساعات متأخرة من الليل، وانه في احد الاتصالات لم تسمع الا اصوات اطلاق الرصاص شرق اوكرانيا. وفي اتصال آخر يقول المتحدث انه والدها، المتوفي قبل ٢٠ عاما، وانه مشتاق لها ويريد ان يضمها.
الممانعة الروسية ضد قوى الاستكبار العالمي تشبه قوى الممانعة في باقي انحاء العالم، فهي قوة سياسية تقتات من التحريض ضد اي رأي محلي مخالف، وتعمل على ربطه باعداء خارجيين، حقيقيين او متخيلين، وتصوّر التعاون بين المحلي والعالمي على انه مؤامرة تهدف لاضعاف القوى الممانعة المتصدية للمؤامرات.
ربما كان اجدى لو جندت الممانعة الروسية وماكينتها الاعلامية طاقتها لتقييم نتائج اقامة موسكو، على مدى العقد الماضي، الدويلات البائسة مثل دولتي ابخازيا واوسيتيا الجنوبية في جورجيا، وجمهورية القرم التي انتزعتها روسيا من اوكرانيا، ودولة دونتسك الشعبية في شرق اوكرانيا، والجيب الاقلوي الذي تعمل على اقامته في وسط وشمال غرب سوريا، وغيرها من الدول الهجينة وغير القابلة للحياة، والتي تعيش، كروسيا، على البلطجة والتشبيح وترويع من يخالفها الرأي اعلامياً ومعنوياً وجسدياً.
في عالم الممانعة، الروسية وغيرها، السياسة ليست وسيلة نقاش للشأن العام من اجل الخروج بالسياسات الانجح والاكثر فعالية لصالح الوطن والجماعة. السياسة، حسب الممانعة، هي تصدي دائم لمؤامرات لا تنتهي، واستبدال المؤمرات الغربية بدول وحكومات كاريكاتورية تجعل من المؤامرة تبدو افضل بما لا يقاس من النتاج المحلي لسياسة البلطجة والتشبيح.
في الماضي كان ممانعو العالم يتهمون أميركا والغرب بالسعي لتقسيم منطقة الشرق الاوسط من اجل اضعافها. مع السيد بوتين، ستتحول المنطقة الممتدة من قزوين الى المتوسط الى دويلات معدومة تعيش على هامش التاريخ، لكنها تتصور نفسها عظيمة لأنها هزمت المؤامرة المزعومة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق