لفتني ما كتبه القيادي في "الاخوان المسلمين" السوريين، الطاهر ابرهيم، في "قضايا النهار" في الخامس من شباط الجاري(•)، عن تعليق حزبه معارضته للنظام السوري اثناء الحرب على غزة، وكأن المعارضة هواية تمارس في ايام السلم فقط.
وذكّرني مقال السيد ابرهيم بنقاش شبيه خضنا فيه مع اصدقاء من معارضي سلاح "حزب الله"، اثناء حرب تموز 2006، حينما سمعناهم يطالبون، لا بوقف الحرب فحسب وهو ما كنا من انصاره، بل بالمشاركة في المقاومة المسلحة في وجه اسرائيل، وكأننا نوافق على السلاح يوما، ونعترض عليه اياما.
كذلك فاجأني حديث القيادي الاخواني عن حصان خاسر، وضرورة الرهان على الرابح، وكأن الفارق بين النظام السوري ومعارضاته لا يعدو كونه ميزان ربح كرسي من هنا، او موقف من هناك، من دون اي اختلاف في الرؤية نحو الحكم.
ولا ادري لماذا تمنى السيد ابرهيم على "اعلاميي 14 اذار" تأييد "حماس"، وكأن كل المطلوب هو ممالئة شكلية وتظافر بالشعارات.
اما المشكلة الاكبر فتكمن في الاخطاء التي وقع فيها السيد ابرهيم في استذكار التاريخ، العربي والاستعماري، بتصويره "حماس" ضحية اقفال الابواب العربية في وجهها وكأنه لم يحدث، على مدى العامين الماضيين، شتى انواع محاولات رأب الصدع الفلسطيني من اتفاق مكة وتشكيل حكومة وحدة وطنية حتى انقلاب "حماس" على شركائها واعدامها الفتحاويين في شوراع غزة.
ان مبدأ المقاومة السلمية قائم على تجربة مريرة من الاداء العسكري العربي في مواجهة اسرائيل، استخلصنا خلالها عبراً مفادها ان العسكر لا يفوز الا اذا وقفت خلفه مجتمعات متصالحة مع نفسها، تعمل على تطوير فكرها وثقافتها وعلومها واقتصاداتها وانماط عيشها بشكل متواصل.
وبرأينا ان القوة المسلحة التي لا تستند الى مقومات مجتمعية سليمة تصطدم بنتائج كالتي حصدها العرب منذ تشكيلهم "جيش الانقاذ" في العام 1948، وحتى "انتصارهم" الاخير في غزة، مرورا بحرب الاستنزاف ومؤتمرات المعاندة في الخرطوم وغيرها، و"نصر اكتوبر" في الحرب التي انتهت مع وقوف الجيش الاسرائيلي على بعد 100 كيلومتر من القاهرة في الوقت الذي اصبحت فيه دمشق داخل نطاق المدفعية الاسرائيلية.
وفي هذه المناسبة علينا ألا ننسى الرئيس العراقي الراحل صدام حسين وصواريخه، التي وصلت تل ابيب، والصواريخ الإلهية، التي طاولت العفولة.
ان الفارق بين هزائم جيوش العرب النظامية وهزيمة ميليشيات المقاومات في ما بعد، هو ان المقاومة ربطت هزيمتها بفناء الشعوب التي من المفترض ان تدافع عنها. وطالما ان الشعوب لن تفنى، فان الهزيمة صارت مستحيلة.
لكن المقاومات هذه ما زالت بعيدة عن النصر، فيما صارت مواجهاتها، التي اعلنت مرارا انها لم تكن لتخوض فيها لو كانت تعلم نتائجها، مكلفة اكثر بكثير على الشعوب الحاضنة، او المفروض عليها، هذه المقاومات.
بيد ان المقاومة المسلحة لاسرائيل، والتي يحثنا السيد ابرهيم على التضامن معها، خرجت علينا بفكرة يتيمة لكنها صحيحة: لا حسم عسكرياً اسرائيلياً للصراع مع العرب. والحالة هذه، لا نعرف لماذا يعتقد ارباب المقاومة ان العكس غير صحيح، وانه بامكان العرب الحسم العسكري في مواجهة اسرائيل.
والحقيقة ان "حماس" و"حزب الله" لم يقولوا لنا يوما كيف سيدبرون، في حال انتصارهم على اسرائيل، خمسة ملايين يهودي يعيشون في فلسطين، طالما ان اعادتهم الى اوروبا والعواصم العربية التي جاؤوا منها صار مستحيلا، وكذلك ممارسة اي تطهير عرقي في حقهم لن يسكت عنه العالم نفسه الذي يمنع اسرائيل من ترحيل الفلسطينيين من الضفة الغربية وغزة.
ما تقوله المقاومات العربية المسلحة، اي "حماس" و"حزب الله"، وغالبا بين السطور، هو ان الصراع العربي مع اسرائيل سينتهي لمصلحة العرب لانه في الاصل صراع ديموغرافي يعتمد على تكاثر النسل العربي الذي يفوق باضعاف مضاعفة التكاثر اليهودي.
لكن اذا كان الصراع تناسليا، معنى ذلك انه سيستغرق قرونا واجيالا، ومعنى ذلك انه لا قيمة للصراع المسلح الحالي الذي يساهم فقط في ابقاء الاجيال الحالية في حالة حرب لا غلبة فيها بالقوة المسلحة.
نحن يا سيد ابرهيم، ممن نعارض المواجهة المسلحة مع اسرائيل، ونحمّل "حماس" و"حزب الله" مسؤولية المجازفة بارواح الابرياء بالدخول في مواجهة مع عدو شرس لا يرحم، لسنا هواة ذل او تفريط بارواح الفلسطينيين اواللبنانيين او بارزاقهم.
نحن نعتقد ان الحرب، حتى تلك التي تشنها قوى عظمى كالولايات المتحدة في فيتنام او العراق، ينبغي ان يكون لها بداية ونهاية وهدف.
اما ان تكون بداية حروبنا بيدنا، ونهايتها في مجلس الامن، وهدفها يتحقق بعد اجيال، فهو ما لا يقبله اي من المجتمعات الراشدة، غير مجتمعاتنا العربية التي قمنا بتخريبها وتخريب مقاييسها فاعملنا العاطفة في قرارات ناسها واهلها منذ ان ظن المماليك، مع اواخر القرن الثامن عشر، انهم قادرون على القضاء على جيش نابليون في مصر بحوافر خيلهم.
ونحن يا سيد ابرهيم، ممن كتبنا في هجاء "حماس" لرعونتها في قرار المواجهة، نمشي على مذهب النهضويين العرب الاوائل ممن قالوا ان تخلفنا عن الدول المتقدمة يكمن داخل مجتمعاتنا، وان اي استرداد للارض الفلسطينية هو مضيعة للوقت من دون مشروع عربي، او حتى كياني مستقل على ما يحلو لبعض القوميين تسميته، للخروج من الازمة الاخلاقية والثقافية والانسانية والسياسية والاقتصادية التي تعيش فيها الدول العربية، كل الدول العربية.
ان القاء اللوم على الاستعمار في تخلفنا هو هروب من تحمل المسؤولية، وسيرة الشعوب التي عانت من الاستعمار مثلنا ونهضت، كما اسلفنا، هي خير دليل.
قد نتمكن من تحميل اسرائيل مسؤولية انهيار المجتمع الفلسطيني وانقسامه على بعضه ورعونة قرارات بعض مسؤوليه. وقد يكون السبب مشابها في سوريا ولبنان. ولكن ما هو السبب في الوضع المزري الذي يعيشه اليمن او السودان، او انعدام تداول السلطة وحرية الرأي في تونس، او ارتكابنا المجازر بحق الكرد في العراق وسوريا؟
ثم من قال ان المقاومة المسلحة هي الوحيدة الكفيلة باسترداد الحق والكرامة؟ هذه دول اخرى، مثل قبرص، لم تحارب لتحرر بل نهضت فاستحى الاحتلال منها وصار يستجديها العودة. وهذه جنوب افريقيا، والافارقة الاميركيون في الولايات المتحدة، قارعوا العنصرية بالنضال السلمي وحركات الحقوق المدنية، وانصفهم التاريخ في حياتهم لا في حياة الاجيال القادمة.
ان المشكلة يا سيد ابرهيم لا تكمن في قوى 14 اذار وما يكتبه صحافيوهم، مسايرة لهذه المقاومة في مقابل كمية الاصوات لذاك المقعد.
ان المشكلة هي في انهيار مفاهيمنا وتخلفها، من الفها الى يائها، فلا مقاومتنا تحمي اهلها، ولا معارضتنا تقدم ما هو افضل من المستبدين في حكمنا، و"ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم"، والسلام.
(•) "رسالة مفتوحة الى قوى الرابع عشر من آذار من قيادي في الاخوان المسلمين السوريين: لا تراهنوا على الحصان الخاسر" - الطاهر ابرهيم - "قضايا النهار" 5/2/2009.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق