ما زالت هيئة المساءلة والعدالة تشغل حيزا كبيرا من اخبار الشأن العام والسياسة في العراق.
قد يكون قرارها اجتثاث حوالي 500 مرشح للانتخابات البرلمانية المقررة في 7 آذار (مارس) قرارا دستوريا ومبررا، او عكس ذلك. وقد يكون موضوع ترشح رئيسها احمد الجلبي الى الانتخابات تضاربا واضحا في المصالح كان من الممكن ان يطيح بالهيئة برمتها في دول الغرب الديموقراطية، كالتي يعيش بعضنا فيها.
لكن هذه الهيئة وقراراتها المثيرة للجدل في كفة، وتصريحات مديرها التنفيذي علي اللامي، والتي نشرتها الزميلة "الحياة"، موخرا، في كفة اخرى.
تصريحات اللامي هذه تؤكد بأن "شخصية الفرد العراقي"، والعبارة هنا استعارة من الراحل عالم الاجتماع الكبيرعلي الوردي، هي شخصية يستحيل بناء اي شكل من اشكال الحكم الديموقراطي في العراق على امثالها.
يقول اللامي في تصريحاته: "لو كان (الجنرال الاميركي ديفيد بترايوس عراقيا، لشملناه بقانون المساءلة والعدالة)". ويضيف: "المسؤولية الاخلاقية والقانونية تفرض على بترايوس تقديم ادلة حول مزاعمه الى الحكومة العراقية".
وعن امكانية تعيين الحكومة العراقية لهيئة مساءلة وعدالة بديلة، يقول: "ليس هناك صلاحية لأي طرف ولا حتى لرئيس الوزراء في تعيين هيئة عليا بالوكالة"، ويضيف: "حتى وان تم تعيين هيئة عليا، فاننا سنستمر في عملنا".
ثم يتحدث عن شمول ترشيح النائب صالح المطلك بقانون المساءلة، ويعتبر انه تم لاكثر من سبب، الاول هو " ترويجه لحزب البعث". ولكن، حسب اللامي، هناك اسباب اخرى "أكثر خطورة" لمنع المطلك من الترشح، وهذه الاسباب "لا يمكن كشفها حاليا لانها تعتبر تشهيرا به"، ولكن "سيتم كشفها بعد مصادقة الهيئة التمييزية على قرارنا باستبعاده وكيانه من الانتخابات".
لاول وهلة، قد تبدو تصريحات اللامي طبيعية ومتماسكة، ولكنها في حقيقة الامر تكشف عن شعور لديه وهيئته بالعظمة، وعن تناقضات تشي بان اللامي يقول الشيء وعكسه.
سلطة اللامي وصحبه، بحسب هذه الاقوال، هي سلطة مطلقة فوق رأس كل مواطن عراقي. حتى "رئيس الوزراء"، والذي لسبب ما يعتبره عدد كبير من العراقيين – انه على غرار اسلافه في الحكم – حاكما مطلقا باسم نفسه لا باسم الشعب العراقي، لا سلطة لديه على اللامي وهيئته.
حتى لو قام مجلس الوزراء، الذي يمثل تنفيذيا الشعب العراقي، لا "رئيس الوزراء كما يعتقد اللامي"، بالمصادقة على قرار يستبدل هيئة المساءلة والعدالة الحالية باخرى مؤقتة وبديلة، فان اللامي وصحبه سيستمرون في عملهم.
حتى نائب الرئيس الاميركي جو بايدن، جاء الى العراق وعاد، حسب المدير التنفيذي لهيئة المساءلة والعدالة، بـ "خفي حنين".
ان هيئة المساءلة والعدالة، حسب تصريحات اللامي، تتمتع بسلطة مساءلة اي عراقي، ولا سلطة للحكومة عليها، وحتى لو قامت الحكومة العراقية بتعيين بديل لها، فان الهيئة ستستمر بعملها، ولو كان جنرالات اميركا عراقيين، لحاسبهم اللامي. اما الاميركيون المتعاونون مع البعثيين ونائب رئيسهم بايدن، فلن يحصلوا من اللامي على اي توقيع، لا في معتقل، ولا بقرار مجلس وزراء.
اللامي هدد في تصريحاته باللجوء الى "الهيئة الانتخابية العليا والقضاء العراقي اذا لم تطبق مفوضية الانتخابات قراراتنا لانها ملزمة لها وعليها تطبيقها من دون تردد او تأخير".
اذن، قرارات اللامي ملزمة ، ولا يمكن لاحد، عراقيا كان او اميركيا، ان يؤثر فيها.
وهكذا، تتطابق شخصية علي اللامي عن الشعور بالسلطة المطلقة فوق رؤوس العراقيين، مع شخصية حكام العراق السابقين، ممن خالوا انفسهم انصاف الهة، وممن يدعي اللامي اليوم بمحاسبة اتباعهم.
ويترافق شعور اللامي بعظمته مع كمية اكبر من التناقضات. فهو على الرغم من محاولة اظهاره لالمامه التام بتفاصيل القوانين الناظمة لعمل الهيئات الانتخابية في العراق، والتي لسخرية القدر تسمح لرئيسه بالترشح فيصبح هو الخصم والحكم، فان اللامي لم يلاحظ التناقضات القانونية الفظيعة التي وقع بها.
اللامي، طالب بترايوس بتقديم دلائل على تورطه مع الحكومة الايرانية والعمل بتعليمات منها، ولكن اللامي يرفض ان يقدم دلائل في حق المطلك، الى ان تثبت السلطات القضائية العراقية قرار استبعاده عن الترشيح، لان في ذلك تشهيرا للمطلك، حسب اللامي.
طيب، كيف يعتبر اللامي الدلائل على استبعاد المطلك تشهيرا قبل قرار القضاء، ولا يرى انها ستكون تشهيرا بعد تثبيت الاستبعاد. ولماذا يطالب اللامي بترايوس بدلائل الى الحكومة العراقية، التي لا سلطة لها على اللامي اصلا بحسب اقواله، ولا يرضى هو بتقديم دلائل عن المطلك وغيره.
ثم، وفي خاتمة التناقضات اللامتناهية للسيد اللامي، الذي يبدو ان العراق اوكل اليه ادارة ديموقراطيته باكملها، يقول اللامي عن اسباب استبعاد المطلك ان الاخير تم طرده من حزب البعث في العام 1977. ولكن اللامي يتهم المطلك بـ "الترويج" للحزب المذكور.
ولكن، يبدو ان السيد اللامي يشعر بان تهمة "الترويج" للبعث لا تكفي سببا لاستبعاد مرشح عن الانتخابات، في العراق الجديد الديموقراطي حيث حرية الرأي مصانة، فيستدرك اللامي ليقول ان هناك "اسبابا اكثر خطورة" خلف استبعاد المطلك.
ولنفترض ان استبعاد المطلك هو لاسباب اكثر خطورة، كما يزعم اللامي، فما شأن اللامي وهيئة المساءلة والعدالة بذلك، فمهمة هذه الهيئة اساسا هي مساءلة عراقيين عن ادوار قاموا بها في زمن النظام السابق. اما بعد العام 2003، ففرض القانون وحفظ الديموقراطية اصبحا من مهمة المؤسسات الدستورية العراقية المنتخبة، كمجلسي النواب والوزراء.
ان واحدة من مشاكل العراق الجديد هي ان ديموقراطيته الحديثة العهد، والتي ننشدها جميعا، يحاول ان يديرها اشخاص ممن لا يفقهون في الديموقراطية الا القليل، وهم بافعالهم يأخذون العراق من سلطة مطلقة كانت لا تفقه في شؤون الحكم شيئا حتى العام 2003، الى سلطة مطلقة اخرى تماثلها في الامية السياسية بعد العام 2003.
والى ان يخرج علينا السيد علي اللامي باجابات مقبولة عن افعاله وتصريحاته، سيحتاج العراق الى هيئة مساءلة وعدالة، تسائل الهيئة الحالية، وتعطيها دروسا في العدالة الديموقراطية.
اما طامة العراق الكبرى، فهي ان اي هيئة مستجدة اخرى ستكون على الارجح على طراز الحالية، اي هيئة انتقامية مع جهل اصحابها باصول الديموقراطية، وهو ما يعيدنا الى كبيرنا الراحل الوردي وتصوراته عن "شخصية الفرد العراقي" وفرادتها، ولن يكون في العراق ديموقراطية بدون معالجة هذه الشخصية.
* كاتب ومراسل "العالم" في الولايات المتحدة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق