يقول احد السياسيين اللبنانيين، اثناء زيارة خاصة الى العاصمة الاميركية، ان الحركة الاستقلالية في لبنان فقدت تأييد فرنسا لها، منذ انتخاب نيكولا ساركوزي رئيسا، لان قطر نجحت في استقطاب احد ابرز المستشارين اللبنانيين المقيمين في العاصمة الفرنسية، ممن كانوا في عداد فريق رئيس حكومة لبنان الراحل رفيق الحريري.
ولا شك ان اشهر ما عرف عن الراحل رفيق الحريري هو العلاقات الدولية الواسعة التي تمتع بها، وهو لم يبخل في تسخيرها في خدمة حلفائه، وكان ابرزهم «حزب الله»، ودمشق، والرياض، وغيرهم.
الا انه منذ اغتيال الحريري في فبراير 2005، انقلبت الصورة في معظم العواصم الغربية، فاستقطبت الدوحة ودمشق فرنسا وبريطانيا، فيما يبرز اليوم «لوبي ايراني»، بمؤازرة قطرية وسورية وليبية، في العاصمة الاميركية، يدفع الادارة الاميركية على تقديم مصالح ايران على مصالح الدول العربية.
ومما يساعد في تقهقر الصوت العربي المؤثر في الولايات المتحدة، الى رحيل الحريري، مغادرة عميد السلك الديبلوماسي العربي، بندر بن سلطان، واشنطن، بعد 22 عاما من الخدمة فيها، اذ يندر ان تتحدث الى اي مسؤول اميركي ممن عاصروا السفير السعودي المحنك، من دون ان يشير الى تراجع الحضور العربي عموما، والسعودي خصوصا، في العاصمة الاميركية.
في ازاء تراجع «اللوبي العربي»، يتقدم «لوبي ايراني» رغم الصعوبات يطالب علنا باقامة علاقات ديبلوماسية اميركية مع نظام الجمهورية الاسلامية، من دون شروط.
يتم تمويل «اللوبي الايراني» عن طريق «مؤسسة علوي»، وهي تأسست في نيويورك في السبعينات باسم «مؤسسة بهلوي»، وكان هدفها القيام بنشاطات «لوبي» لمصلحة حاكم ايران الراحل الشاه محمد رضا بهلوي.
وانقلب اسم المؤسسة الى «مؤسسة المستضعفين» ابان نشوب الثورة في ايران في العام 1979، ثم الى «علوي» في وقت لاحق، وهي ترتبط مباشرة بالمبعوثين الايرانيين الدائمين لدى الامم المتحدة، واهدافها المعلنة هي نشر الاسلام والثقافة الفارسية في اميركا.
الا ان السلطات الاميركية اعلنت العام الماضي ان المؤسسة هي واجهة لـ «بنك ملي» الحكومي الايراني، واعتبرت انها تقوم بتمويل نشاطات لمصلحة حكومة ايران في اميركا، وتمويل شبكة تجسس ايرانية في اوروبا. ثم قام مكتب التحقيقات الفيديرالي (اف بي اي) باعتقال رئيس المؤسسة، فرشد جاهدي، بتهمة تمزيقه مستندات طالبته بها محكمة نيويورك، وكانت ستؤدي الى ادانته بالتعامل مع، وبتشكيل واجهة مالية، للحكومة الايرانية.
من ابرز النشاطات السياسية التي قامت بتمويلها «مؤسسة علوي» هو تبرعها بمبلغ 100 الف دولار لجامعة كولومبيا، بعد ان وافقت الاخيرة على استضافة الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد، في ندوة، على هامش مشاركته في اعمال الجمعية العامة للامم المتحدة في سبتمبر 2007.
كذلك تقوم المؤسسة بتمويل «ابحاث» اكاديميين وناشطين اميركيين، واميركيين من اصل ايراني. في طليعة هؤلاء يأتي مؤسس ورئيس «المجلس الاميركي الايراني» هوشانغ اميراحمدي، الذي يدعو الى اقامة علاقات اميركية مع النظام الايراني الحالي، والتخلي عن اي نوع عقوبات او عمليات عسكرية ممكنة ضد ايران.
اما من اعضاء مجلس ادارة «المجلس الاميركي الايراني»، فيبرز السفير السابق شاس فريمان، الذي كاد «اللوبي الايراني» ان ينجح في ايصاله الى «مجلس الاستخبارات القومي»، وهذا المجلس الاخير هو المسؤول عن تقييم مراحل تطور البرنامج النووي الايراني، وبالتالي كيفية التعاطي الاميركية مع طهران. الا ان حملة مضادة، قادها على الارجح اللوبي المؤيد لاسرائيل، ادت الى اسقاط ترشيح فريمان.
و من اعضاء «المجلس الاميركي - الايراني» يبرز كذلك رئيس جامعة «جنوب كاليفورنيا في ستانيسلاوس» حامد شرفاني، وهو ايراني مسيحي. في هذه الجامعة يزاول اللبناني اسعد ابوخليل مهنة التعليم.
وابو خليل، صاحب المقال الاسبوعي في جريدة لبنانية ممولة من جهات مقربة من «حزب الله»، غالبا ما يطل عبر فضائيات عربية واميركية، فيشتم حكومات المنطقة كافة باستثناء ايران.
في العام 2000، استقدم امير احمدي، الناشط الايراني - السويدي البالغ من العمر 35 عاما وصاحب الكاريزما، تريتا بارسي، الى الولايات المتحدة، وبذلك بدأت المرحلة الاكثر نفوذا من نشاط «اللوبي الايراني» داخل اميركا.
انشأ بارسي «المجلس الوطني الايراني الاميركي»، وهدفه المعلن الدفاع عن مصالح الاميركيين من اصل ايراني، مع ان بارسي ايرانيا سويديا ولم يحصل على الجنسية الاميركية بعد. ابرز شركاء بارسي شابان، الاول ايراني في طهران اسمه سياماك نامازي، والثاني اميركي من اصل ايراني واسمه رضا اصلان.
بارسي استحصل على مبالغ بلغت 200 الف دولار من الحكومة الاميركية لدعم «المنظمة غير الحكومية»، التي يديرها والد نامازي في طهران، التي تعمل بترخيص من الحكومة الايرانية. وبمساعدة بارسي، اقام سياماك نامازي في واشنطن كباحث في «معهد وودرو ويلسون»، وانشأ «التحالف المستقبلي الدولي،» وهو شركة استشارية لتقييم «المخاطر الممكنة للتعامل التجاري مع ايران».
اما اصلان، عضو المجلس الاستشاري في «المجلس الوطني الايراني - الاميركي»، فهو عضو ايضا في «صندوق بلوشيرز»، وهذا ساهم بتمويل المؤتمر الاخير الذي عقده بارسي وجمعيته في مجلس الشيوخ، في نوفمبر الماضي، عن ضرورة اسقاط العقوبات عن ايران، واقامة علاقات ديبلوماسية غير مشروطة معها.
وفي ادارة «صندوق بلوشيرز» ايضا السناتور السابق تشاك هايغل، وهو صاحب ثروة كبيرة من اعماله في الصين في الثمانينات، ويدعو الى تكرار تجربة الانفتاح الاميركي في السبعينات على الصين الشيوعية مع نظام الملالي في ايران، وغض النظر عن القمع الداخلي الايراني وتوسع نفوذها الاقليمي، في مقابل مكاسب اقتصادية اميركية في ايران، وخصوصا القطاع النفطي.
الا ان ولاء بارسي واصلان وامير احمدي وآخرين ايرانيين واميركيين للنظام الايراني، لم يقض تماما على المعارضين الايرانيين في الولايات المتحدة، فشن هؤلاء، وفي طليعتهم المعارض حسن داعي الاسلام، حملة لفضح «اللوبي الايراني» ما حدا ببارسي الى توظيف احدى ابرز «شركات العلاقات العامة»، براون لويد جايمس، للدفاع عنه وتحسين صورته امام الرأي العام. والشركة هي نفسها التي تعمل لمصلحة تلفزيون «الجزيرة» والزعيم الليبي معمر القذافي.
كذلك قام بارسي باعادة تموضع سياسية، فصار يهاجم ممارسات النظام الايراني في مجال حقوق الانسان، لكن المعارضين الايرانيين يصرون على ان بارسي بعيد كل البعد عن «الثورة الخضراء»، وهو يحاول الاختباء خلفها موقتا فقط.
ويبدو ان بارسي، في حمأة تلميع صورته، ارتكب خطأ فادحا، اذ بعد ان اتهم كل من يهاجمه بانه من «اللوبي الصهيوني» او «المحافظين الجدد» او ارهابيين من «مجاهدي خلق»، ادعى ضد داعي الاسلام بتهمة التشهير.
هذا الادعاء ادى الى طلب المحكمة فتح ملفات مالية ومراسلات الكترونية لبارسي، اظهرت ان الاخير على اتصال مباشر مع المبعوث الدائم لايران لدى الامم المتحدة في نيويورك، وانه حاول ترتيب لقاءات بين السفير الايراني المذكور واعضاء في الكونغرس. كذلك، عقد بارسي وصحبه لقاءات مع كبار مسؤولي الادارة، وحاولوا اقناعهم بوجهة النظر الايرانية.
اما من الامثلة على مدى الاختراق الايراني داخل واشنطن، فيبرز ملف السياسي العراقي احمد الجلبي، الذي ساهم في دفع واشنطن الى الحرب في العراق، واليوم يعتبر المسؤولون الاميركيون ان الجلبي كان على اتصال بالاستخبارات الايرانية منذ اليوم الاول.
كذلك، يبرز احد كبار الاعلاميين ممن عهدت اليهم الحكومة الاميركية ادارة فضائية «الحرة عراق»، وهو اليوم من المرشحين في الانتخابات البرلمانية العراقية، المقررة في 7 مارس، على لائحة «الائتلاف العراقي الوطني»، الموالي لايران.
ويتمتع «اللوبي الايراني» بقيادة بارسي بعلاقات ممتازة مع عدد كبير من مراكز الابحاث، يتصدرها «معهد اميركا الجديدة»، والقيمين عليه من امثال ستيف كليمنز، الذي اجرى مقابلة مع رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» خالد مشعل في دمشق أخيرا، ودانيال ليفي، المؤيد للانفتاح على حماس و«حزب الله»، وفلينت ليفيريت، مؤلف كتاب «وراثة سورية: معمودية بشار بالنار»، يتحدث فيه عن ضرورة الانفتاح على دمشق.
ويدعي بارسي وليفيريت انهم من حصلوا على مذكرة الانفتاح الايراني المزعوم على واشنطن، التي ارسلتها طهران اثر دخول الجيش الاميركي الى بغداد في 2003.
وعلى تخوم «اللوبي الايراني» يبرز مجهود سوري وان اضعف بكثير في الاتجاه نفسه، يقوده السفير السوري في واشنطن عماد مصطفى، ويعاونه عدد من الاميركيين يتصدرهم روب مالي عضو «مجموعة الازمات الدولية»، والتي يترأسها السفير السابق وعضو «المجلس الاميركي - الايراني» توماس بيكيرينغ.
كذلك يعاون الاكاديمي جوش لانديس مصطفى، الذي نجح في تحويل رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ السناتور جون كيري الى المؤيد الابرز لنظام الرئيس السوري بشار الاسد.
ومن ابرز مؤيدي «اللوبي السوري» يبرز المدير السابق لـ «ايباك» (اللوبي الاسرائيلي) توم داين، وهو يقف مع ليفي من «معهد اميركا الجديدة» خلف اقامة لوبي «جاي ستريت باك» المناهض لايباك.
من اصدقاء «اللوبي السوري» ايضا، رئيس «معهد بروكنغز» مارتن انديك، وهو يزور الدوحة باستمرار للاشراف على فرع معهده، وغالبا ما يلتقي هناك مستشاري الرئيس السوري واتباعهم من السياسيين اللبنانيين.
ولمصطفى اصدقاء في «معهد الشرق الاوسط»، يتصدرهم غراهام بانرمان وكايت سيلي. وكان المعهد من الاوائل ممن كسروا العزلة التي كانت تفرضها واشنطن على المسؤول السوري، اذ استضافه في محاضرة في مايو من العام الماضي. كذلك يدافع باستمرار «عن ضرورة مراعاة المصالح السورية في لبنان» الباحثة في «معهد الولايات المتحدة للسلام» منى يعقوبيان، اضافة الى الصحافي في مجلة «نيويوركر» سيمور هيرش، وهو يزور الاسد باستمرار وعلى تواصل مستمر مع مصطفى.
اما من «لوبي حزب الله» في الولايات المتحدة، فيبرز الشاب المقيم في بيروت نيكولاس نو، وهو القى محاضرة أخيرا في «معهد اميركا الجديدة»، بمشاركة ليفي ويعقوبيان، وحضور بانرمان وسفير لبنان السابق في واشنطن، والموالي لسورية، عبدالله بوحبيب. ودعا نو اميركا الى الانفتاح على «حزب الله» والابتعاد عن «تحالف 14 مارس»، لان الاخير لا يمثل الا التطرف السني في لبنان.
ومن زوار واشنطن من «لوبي حزب الله وايران»، العميل السابق في الاستخبارات البريطانية والمقيم في بيروت اليستير كروك، وهو حضر أخيرا لتسويق كتابه القائل بضرورة استبدال اميركا لحلفائها من «السنة العرب» بـ «الشيعة الايرانيين والعرب».
في ضوء هذه المعطيات، يرى مراقبون ان الحرب في العراق، وتنامي دور ايران وتحالفها في منطقة الشرق الاوسط، وتراجع الدور العربي، وتراجع الادارة الاميركية المتكرر في وجه طهران، لا يأتي من الفراغ، بل يأتي من تراجع غير مسبوق للصوت العربي في عواصم العالم، وفي طليعتها واشنطن، وتقدم هائل للادوار الايرانية والقطرية والسورية والليبية في هذه العواصم.
كذلك يعتبر المراقبون ان «اللوبيات» المختلفة في العاصمة الاميركية انما تعكس حسن تنظيم وتمويل الاطراف في البلد الام، والناظر لميزان القوى في الشرق الاوسط، لا يسعه الا ملاحظة تنامي دور التحالف الذي تقوده ايران في وجه التحالف العربي، والنجاح والفشل على صعيد استقطاب الرأي العام العالمي، ما هو الا انعكاس لاداء كلا الطرفين في المنطقة عموما.<>
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق