بقلم حسين عبد الحسين – واشنطن
"الفياضية" هو التعبير الذي اطلقه الصحافي الاميركي توماس فريدمان في وصف التيار السياسي الفلسطيني المؤيد لرئيس الحكومة سلام فياض، والذي يشهد صعودا ملحوظا في الاراضي الفلسطينية، بحسب استطلاعات الراي، وفي المحافل الدولية.
وما يقدمه فياض للغرب والعالم هو معادلة يمكن تلخيصها بعبارة وردت في شهادة صديق فياض ورئيس "اميركان تاسك فورس من اجل فلسطين" زياد العسلي، الذي قال امام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ ان الحكومة الفلسطينية تقدم نموذجا عن مقدرتها على "حكم نفسها" (self-governance) وهي تتوقع من العالم ان يمنحها حق "تقرير مصيرها" (self-determination).
وتشكل سياسة فياض افتراقا كبيرا عن السياسة الفلسطينية والعربية عموما، منذ بدء الصراع مع دولة اسرائيل قبل نصف قرن. ولطالما قامت الاخيرة على ابقاء الوضع المعيشي الفلسطيني في الداخل، كما في دول الشتات، مزريا.
والاهم من ذلك كله، ان من خلال الاثارة الدائمة والملامة الملقاة على كاهل اسرائيل، وهي موغلة طبعا في عذابات الفلسطينيين، نجحت الانظمة العربية ومعها الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في توجيه الغضب العربي بعيدا عن مكامن الفشل الحقيقية في الحكم، ان داخل الثورة الفلسطينية او في معظم الدول العربية.
واستخدم معظم الحكام العرب والفلسطينيين الذريعة الاسرائيلية كغطاء دائم لتجاوزاتهم، ان في الفساد المالي والحسابات السرية في مصارف سويسرية، أو في فرض الاحكام العرفية، او في الابقاء على ميليشيات ترفع المقاومة شعارا لها، فيما هي تستخدم سلاحها لتعطيل حكومات الدول التي تستضيفها، وفرض اجنداتها عليها.
وبينما كان ابو اياد وصحبه يطلقون شعارات مثل "طريق القدس تمر من جونية"، كان السيد فياض يتسلق سلم عالم الاقتصاد، الذي برع فيه ووصل من خلاله الى مناصب عليا في البنك الدولي. لذا، لم يكن مفاجئاً على الاطلاق الاداء الذي ميز فياض، التكنوقراطي في الحكم، عن باقي القيادات "الثورية" الفلسطينية.
بيد ان التفرغ لتحسين الاوضاع الاقتصادية والمعيشية في الضفة الغربية، بشهادة البنك الدولي ومنظمات عالمية اخرى، لا يعني ان رئيس الوزراء الفلسطيني وفريقه في الداخل والخارج سيكتفيان بهذه الانجازات. كذلك، لم يؤدِّ انكفاء فياض عن الشعارات الثورية الى تراجعه عن المطلب الاساسي للفلسطينيين، اي قيام الدولة الفلسطينية. وفياض يدرك ان اي نجاح في الوصول الى دولة مستقلة يحتاج الى تقديم خطاب فلسطيني افضل من الخطاب المتخبط، والمتأرجح بين السلم والحرب.
هنا يبرز مرة اخرى دور المجموعات المساندة لفياض مثل منظمة العسلي، وهي على الرغم من تواضع امكاناتها، تقوم بتقديم الاطار الفكري لحركة "الفياضية". ويعتمد العسلي في نشاطه على اثنين: غيث العمري، وهو من العاملين سابقا في فريق الرئيس الفلسطيني محمود عباس واحد واضعي وثيقة جنيف 2000، التي وقعها كل من ياسر عبد ربه ويوسي بيلين، كذلك يبرز حسين ابش، وهو احد اكثر وجوه "العرب الاميركيين" شهرة جراء عمله كناطق باسم "اللجنة العربية – الاميركية لمناهضة العنصرية" حتى العام 2004. ابش، وهو اكاديمي، غالبا ما يحاجج انصار "الدولة الواحدة في فلسطين"، ويدعو الى تبني خيار الدولتين خيارا واضحا لا لبس فيه.
ويشير ابش في مجالسه الى ما يعتبره تناقضات في حجج انصار "الدولة الواحدة"، مثل الراحل ادوار سعيد، ويقول انه اذا كان المطلوب دولة واحدة على كامل ارض فلسطين، فلماذا المطالبة بانسحاب الجيش الاسرائيلي من الضفة الغربية وغزة؟ واين يذهب هذا الجيش اذا انسحب ما دامت كل الارض فلسطينية؟
كذلك يتحدث ابش عن واقعية الطروحات التي يجب ان يقدمها او يتوقعها الفلسطينيون، مثلا ماذا سيكون مصير اليهود من جذور غير عربية ممن وفدوا الى فلسطين في حال قيام دولة واحدة؟ ليخلص الى ان خيار الدولتين يجب ان يكون خيارا فلسطينيا نهائيا، وتبنى عليه المطالبة بانسحاب اسرائيلي وقيام دولة فلسطينية مستقلة على كامل اراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، مع القدس الشرقية عاصمة لها.
اما العسلي، فيتحدث عن تصويب الخطاب الفلسطيني داخل الولايات المتحدة. ويقول ان الخيار الاهم، بعد انفصاله عن "اللجنة العربية – الاميركية لمناهضة العنصرية" كان تبني المجموعة الفلسطينية الجديدة خيار المواطنية الاميركية، وهذا اساس في اي نشاط من هذا النوع داخل الولايات المتحدة.
ويقول العسلي ان الهدف الرئيسي هو ايجاد السيناريوات التي فيها مصلحة اميركا وفلسطين في الوقت نفسه، وهذا يختلف عن موقف المنظمات العربية والاسلامية، التي يندر ان تدافع عن مصالح اميركا على الرغم من ان القيمين عليها مواطنون اميركيون. اما النقطة التي لا تقل اهمية، حسب العسلي، فهي تحرك مجموعته من زاوية فلسطينية، تتمايز عن المطالب العربية بشكل عام، كي تطالب بمصالح فلسطينية وقيام الدولة.
العسلي ومجموعته ادركا انه على مدى نصف القرن الماضي، استغلت بعض الانظمة العربية القضية الفلسطينية لتحقيق مصالح لها، على حساب الفلسطينيين ومصالحهم. كذلك يقول ان من بين المنظمات العربية في واشنطن هناك "الكثير من تجار القضية"، وهم من يرغب في الابتعاد عنهم.
لا شك في ان التجربة الفلسطينية في بناء الدولة عانت وتعاني، كما جارتها اللبنانية والعراقية راهنا، من مجموعة عوامل متشابكة، فيها ما هو خارجي – مثل الاحتلال الاسرائيلي في فلسطين – وماهو اقليمي، مثل معارضة سوريا محادثات السلام غير المباشرة بين الفلسطينيين والاسرائيليين، فيما خاضت هي المفاوضات غير المباشرة مع اسرائيل، في تركيا.
ويبرز الاهم من ذلك نشوء شعور وطني فلسطيني ولبناني وعراقي، كان محرما حتى الامس القريب تحت شعار العروبة والوحدة العربية، في مواجهة الاجندات الاقليمية المتداخلة، منها عرض هذه الدولة خدماتها على الاميركيين لتسهيل انسحابهم من العراق، او عرقلة ذلك النظام قيام حكومة وحدة فلسطينية، وما الى هنالك من مناورات سياسية اقليمية غالبا ما تأتي على حساب الشعوب المعنية انفسها.
اما فياض، فتجربة مميزة، وهو يشبه الى حد كبير رئيس حكومة لبنان السابق فؤاد السنيورة، الذي حاول ايضا ممارسة حكم ذاتي والنأي بنفسه عن شعارات "الثورة حتى النصر"، ولكن تم فرض ثمن سياسي كبير عليه، فتنحى، فيما فياض يبدو اكثر توفيقاً حتى الان، لاسباب وظروف مختلفة، وما على الفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين من المنخرطين في المدرسة الواقعية، غير الشعبوية، الا مراقبة هذه التجربة التي ينفرد بها الفلسطينيون واللبنانيون وتكرارها.
(صحافي)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق