يتصدى عدد كبير من المسؤولين والخبراء القانونيين لموضوع انتهاء صلاحية الحصانة للنواب المنتهية ولايتهم بطريقة تشي بان العراقيين ما زالوا ينظرون الى الديموقراطية بعين عشائرية وقبلية متخلفة.
والرأي السائد لدى معظم المتطوعين الحديث عن انتهاء الحصانة هو ان النواب الخارجين من البرلمان، صار من الممكن محاكمتهم امام القضاء المختص، بتهم مختلفة، وهو ما يجعل طالبي الثأر القضائي كثرا، وكأن نيابة الفرد هي كالتجائه في كنف عشيرة طالبا حمايتها، فان تخلت عنه العشيرة، سقطت حصانته وصار ممكنا الانتقام منه.
ان حصانة النائب، اثناء ولايته الدستورية، ليست مطلقة ولا تتعلق بشخصه، فالفكرة الرئيسية المراد من خلفها اعطاء حصانة لعضو البرلمان هي منحه القدرة على القيام بدور المشرع والحسيب والرقيب، على دور الحكومة، من دون خوفه من تعرض السلطات له بسبب رأي ادلى او قد يدلي به باسم من يمثلهم من العراقيين.
هذه الحصانة لا تشمل اعمالا خارجة عن القانون مثل القتل او السرقة، وهي افعال لا تغطيها اي حصانة في العالم. ما تؤمنه الحصانة النيابية للنائب هو اعاقة مقدرة الحكومة – عبر قواها الامنية – من التحرش بالنائب بشكل تلقائي.
مثلا لو فرضنا انه تم اتهام النائب الفلاني بقتل مواطن، لا يمكن للشرطة اعتقاله فورا للتحقيق معه كما هي الحال مع باقي المواطنين، بل تتجه الشرطة بالادلة التي بحوزتها الى لجنة برلمانية تعنى باخلاق النواب وممارساتهم، وان رأت اللجنة ان الدلائل متوافرة، تتقدم بها امام جلسة عامة للبرلمان للتصويت على نزع الحصانة من النائب، لتستطيع الشرطة بعد ذلك توجيه التهم اليه واستدعاءه للمحاكمة.
و الشرطة يجب ان تكون مخولة باستدعاء المسؤولين المنتخبين في اي وقت، بصفة شاهد، للتحقيق معهم، من دون المرور بالبرلمان. الشرطة الاسرائيلية، على سبيل المثال، غالبا ما تستدعي رؤساء حكومة متهمين بالفساد لتحقق معهم، مع العلم ان رؤساء حكومة اسرائيل هم دائما اعضاء في البرلمان كذلك.
الحصانة ليست حماية مطلقة للنائب، فبالامكان نزعها اثناء ولايته، بعد سلوك الخطوات المطلوبة. ويمكن في بعض الحالات استدعاء النائب للتحقيق معه بصفة شاهد، على الرغم من حصانته، ثم ان ثبت تورطه، تتم المطالبة بنزع حصانته، امام البرلمان، ليتم الادعاء عليه.
اما انتظار انتهاء ولاية النائب، فهي ضرب من ضروب الهرطقة الدستورية والقصور لفهم الديموقراطية.
ثم انه من غير الممكن، مع حصانة او بدون حصانة، محاكمة المواطنين لآرائهم او الاقوال التي قد يدلون بها. وللنائب حصانة خاصة تجاه الآراء التي يدلي بها ضد الحكومة، اذ تتطلب محاكمته خطوات اكثر، ما يجعله في مأمن عن تحرشات ممكن ان تقوم بها السلطة التنفيذية.
لكن هذا لا يعني ان النائب محمي بالمطلق، والا لتحول البرلمان الى مجموعة من المجرمين واللصوص وقطاع الطرق، على الاقل حتى مهلة انتهاء خدمتهم في البرلمان.
ومن ضروب القصور في فهم الديموقراطية هو اعتبار معظم العراقيين للتحقيق القضائي ادانة تلقائية لكل من يجري التحقيق معه.
والتحقيق، غالبا ما يتوسع ليطلب عددا اكبر بكثير ممن يعتقد بتورطهم، بهدف تبيان الظروف المرافقة لوقوع جرم ما. على سبيل المثال، غالبا ما يتم استدعاء رجال الامن واصحاب الاختصاص، مثل الطبيب الشرعي او خبراء المحاسبة او البيئة او اي اختصاص آخر، بحسب نوع الجريمة، او حتى الجيران او عابري السبيل ممن صادف وجودهم، لمثولهم امام التحقيق بصفة شهود.
في الولايات المتحدة، عندما يحصل سائق اي سيارة على مخالفة مرورية، يتم تخييره بين دفعها او المثول امام محكمة السير – حتى برفقة محام – للدفاع عن نفسه والغاء الغرامة. وهناك، يحضر الشرطي كذلك بصفة شاهد ليروي المخالفة امام القاضي، فلا الشرطي متهما، ولا السائق متهما، بل عملية تحقيق امام قاض بهدف محاولة تبيان الحقائق.
اما في العراق، فكلمة تحقيق تثير الشبهة وتجعل كل مشارك في اي تحقيق مشاركا في الجرم من دون مواربة. وللدلالة على الكراهية بين العراقيين ومبدأ التحقيق، صار مبدأ الحصانة النيابية مانعا لاي نوع تحقيق مع اي نائب.
حتى الحكومة العراقية، ابتكرت كلمة "تضييف" او "استضافة" لاستبدال كلمة التحقيق بحق الحكومة ورئيسها ووزرائها، وكأن التحقيق البرلماني، وهو مبدأ متعارف عليه عالميا، اهانة بحق المسؤولين، الذين غالبا ما يحبون ان يصوروا انفسهم على شكل أئمة معصومين عن الخطأ بوحي إلهي، وعليه، يصبح اي تحقيق معهم انتقاصاً من هيبتهم وقدرتهم على الاستمرار في المسؤولية.
وحتى يستوي مفهوما الحصانة النيابية والتحقيق القضائي، سوف تعاني الديموقراطية العراقية من عشوائية الفتاوى القانونية وعبثية التفسيرات الدستورية، وليس بيد العراقيين الا انتظار نمو هذه التجربة في البلاد، فالوقت وحده هو الكفيل بصقلها وابعادها عن عصر التطير والخرافة، الذي يسيطر حاليا على العراق وعلى معظم العراقيين.
* كاتب ومراسل "العالم" في الولايات المتحدة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق