يعرف الخبراء بشؤون الشرق الأوسط أن السياسة في هذه المنطقة هي مساوية لحروب المافيا. يفتخر السياسيون بأنهم "واقعيون" في حين أنهم يمارسون الانتهازية.
نادرا ما يكون الواقع السياسي في لبنان بعيدا عن الانتهازية. يتقلـّب السياسيون فيما يدلون بتصاريحهم السياسية. وبدلا من أن يعتبر الصحافيون هذا نوعا من المكر، أصبحوا بمثابة قاتلين مأجورين يعملون وفقا لقوائم الرواتب. حين يغيّر السياسيون اللبنانيون المواقع – في أغلب الأحيان بطريقة دراماتيكية – يهلل الإعلام لهذا التغيير ويعتبره "ضروري لخدمة المصالح الوطنية".
نتيجة للحصانة التي يتمتع بها السياسيون ووسائل إعلامهم المتآمرة، أصبحت الكلمات والمبادئ في الدول العربية – خاصة في لبنان - بدون قيمة تذكر.
لكن هناك سياسي واحد يبرز دائما متمسكا بمبادئه: سمير جعجع.
من عائلة متواضعة ماديا، اكتسب سمير جعجع، التلميذ اللامع، كل ثقافة توفرت له، وارتاد الكليّة الطبية الرفيعة المستوى في الجامعة الأميركية في بيروت.
في العام 1975، انقسم لبنان بين مسيحيين – ربطوا وجودهم بحماية وطن مريض يسيطرون عليه – ومسلمون مصمّمون على الحلول مكان المسيحيين في القيادة والسلطة. من أجل تنفيذ مخططهم استعمل المسلمون نفوذ وقوة الجيوش الفلسطينية التي كان يفترض بها تحرير بلدهم المجاور فلسطين.
تلك كانت حالة لبنان عندما دخل سمير جعجع المعترك السياسي، ولهذا السبب انخرط طويلا في الميدان العسكري. بما أنه مسيحي، كان من الطبيعي أن ينضم إلى صفوف القوات اللبنانية، منظمة تجمع تحت مظلتها الجيوش المسيحية وتناضل في سبيل صمود سيادة الدولة في وجه الجماعات الفلسطينية المسلحة وحلفائهم اللبنانيين.
قاتلت المليشيات الشعبية طويلا، وبعد أن طردت إسرائيل القيادة الفلسطينية عند اجتياحها للبنان في العام 1982، استمرّ القتال بين الميليشيات اللبنانية التي انفجرت الخلافات الداخلية فيما بعد لدى بعضها أو وقع الانشقاق بين الفئات المتحاربة الأخرى.
تدرّج سمير جعجع الملتزم والموهوب في مراكز القوات اللبنانية. في منتصف الثمانينيات، أصبح، وهو يكاد يبلغ الـ33 من عمره، الزعيم غير المتنازع عليه. إضافة إلى مهاراته العسكرية، أظهر جعجع قدرات تنظيمية هائلة بإطلاقه مؤسسة إعلامية تلفزيونية لا تزال تحتل المرتبة الأولى في نسبة المشاهدين في المنطقة. كما أنشأت القوات اللبنانية مؤسسات طبية وتربوية.
إن الحروب الأهلية ليست مطلقا أهلية. وبالرغم من الخدمات الاجتماعية التي قدمها، بقي جعجع رجلا عسكريا. من موقع السلطة الذي يحتله – كأي سياسي لبناني – أمر بشن المعارك واغتيال منافسيه. لقد لوث سجل ميليشيات جعجع سمعته.
في العام 1990، سقط لبنان تحت السيطرة السورية بموافقة أميركية. أعطي الضوء الأخضر أخيرا لدمشق، لا لتسيطر على بيروت وحسب، بل، وبصفتها الطرف المنتصر، أن تسطّر تاريخ الحرب الأهلية.
تحت سيطرة الحكم السوري المدعوم من الأميركيين والتي امتدت من العام 1990 حتى العام 2005، عمل النظام السوري على حلّ كافة الميليشيات الشعبية – ما عدا حزب الله – وتحول قادة الميليشيات إلى تعاطي السياسة.
باستثناء جعجع، الذي أصرّ على الانسحاب السوري وتمسّك بالسيادة اللبنانية، تحوّل كل قادة المليشيات اللبنانية الآخرين إلى رجال سياسة تمت مكافئتهم بمنحهم مواقع رسمية عالية ومساعدات مالية لمناصريهم.
لم يستسلم جعجع أبدا للنظام السوري ولهذا تمت معاقبته. في العام 1994، لفقت ضده تهمة القيام بعملية تفجير وحكم عليه بالسجن المؤبد، أما حزب القوات اللبنانية، الذي يملك اليوم إجازة بالعمل السياسي، تم حله قانونيا وشنت أجهزة الإعلام السورية واللبنانية حملة شعواء لتشويه سمعة جعجع طيلة العقد الذي تلى.
أجبر تحول مفاجئ للأحداث في العام 2005 السوريين على الانسحاب من لبنان. وانقلب أصدقاء سوريا السابقون إلى معارضين وعملوا من أجل إطلاق سراح جعجع.
فور خروجه من السجن، انضم جعجع إلى حركة 14 آذار المعادية لسوريا. وبينما كان حلفاؤه يعلنون ندمهم لتصرفهم كدمى لدى سوريا على حساب السيادة اللبنانية، على مدى عقود، ثبت جعجع على مبادئه. لقد أمضى 11 عاما في السجن بسبب رفضه الإملاءات السورية، وفي العام 2005، واصل نشر مبادئه الداعمة للسيادة اللبنانية من حيث توقف.
ولكن، أسقطت القيادة العالمية التي تبدلت لاحقا، الكرة في لبنان، وأوقفت دعمها الكامل للديمقراطية، خاصة بعد أن جاء باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة الأميركية في العام 2008. عندها، قفز السياسيون اللبنانيون الزئبقيون من سفينة الاستقلال والديمقراطية، إذ خافوا الغرق، وبدأوا، بشكل مذل، استجداء سوريا – وينصب الآن الجهد الأميركي والعالمي – لإعادتهم.
بقي جعجع، السياسي المستفرد، على متن تلك السفينة. أصبح الرجل الأخير الذي يقف مساندا استقلال وسيادة الدولة، ويصر على نزع سلاح حزب الله. متسلحا بتاريخ مقاومته اللبنانية، وما تبقى منها نتيجة لاعتقاله الذي دام 11 عاما، بدأ جعجع يربح دعم الجالية المسيحية في الخارج، الأمر الذي يجعل منه ظاهرة نادرة بين سكان لبنان الممزّق.
يناضل سمير جعجع اليوم ضد الوقائع السياسية في لبنان، في الشرق الأوسط والعالم. ولهذا السبب، يكسب محبة وإعجاب مؤيدي الاستقلال اللبنانيين - من مسيحيين، مسلمين ودروز – وبالأخص يكسب غضب سوريا وحماتها اللبنانيين.
يثبت سمير جعجع أنه رجل المبادئ الوحيد في لبنان. لذلك، يجب تكريمه بصفته آخر مناضل في سبيل الحرية في الشرق الأوسط، في وقت يبحث فيه العالم عن ديكتاتوريين لتكريمهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق