يسعى السياسيون والباحثون في الولايات المتحدة سعيا حثيثا لاستنباط الخطوط العريضة للسياسة الخارجية للرئيس باراك اوباما، بعد اكثر من 15 شهرا على دخوله البيت الابيض.
في تفكير معظم هؤلاء، يتصدر الشرق الاوسط اولويات الرئيس الاميركي. اذ ذاك ينقسمون حول اهمية ملفات الشرق الاوسط من وجهة نظر الادارة الاميركية، فيقول بعضهم ان ملف ايران النووي يأتي في الصدارة، فيما يعتقد آخرون ان مفاوضات السلام العربية – الاسرائيلية تأتي في المرتبة الاولى لدى اوباما، وان الرئيس الاميركي يؤيد النظريات القائلة بان التوصل الى تسوية سلمية سيساعد على مواجهة ايران بشكل افضل.
الباحثون يجمعون على ان الاهتمام الاميركي بالعراق وشؤونه صار في مراحل الافول، وان مشاكل العراق صارت الآن في عهدة أهله، وسياسييهم ممن لم يظهروا حتى اليوم اي مقدرة على ادارة مديرية عامة او وزارة، قبل الحديث عن ادارتهم لمقدرات بلد بأكمله مثل العراق.
تناقص الاهتمام الاميركي بالعراق صحيح. ولكن ما هو خاطئ هو الاعتقاد بان ملف ايران النووي يشغل بال واشنطن. كذلك، لا ترى القيادة الاميركية ضرورة التفرغ لعملية السلام العربية – الاسرائيلية، ويردد المسؤولون الاميركيون مقولة ان "اميركا لا يمكنها ان ترغب في السلام اكثر من اصحابه، واذا ما رفض الفلسطينيون حضور مفاوضات السلام، او رفض الاسرائيليون وقف الاستيطان والتوصل الى اتفاقية، فان الخاسر الاكبر لن تكون اميركا".
ولكن ما الذي يشغل بال اوباما خارجيا؟ الاجابة بسيطة، وتتلخص بتركيز الرئيس الاميركي وادارته على ما كانت ادارة سلفه جورج بوش تطلق عليه تسمية الارهاب.
طبعا حتى يومنا الحالي، لم يتوصل العالم الى تعريف للارهاب، ولكن من وجهة النظر الاميركية، الارهاب هو ظاهرة استخدام العنف من قبل مجموعات غير حكومية. مثلا، لا تطلق واشنطن على ايران او سورية اسم دول ارهابية، بل دول داعمة للارهاب، والسبب هو ان التنظيمات الارهابية، لا عناوين لها ولا وجوه، فيما الدول معروف تراتب مسؤوليها وممكن شن حرب عليها او فرض عقوبات او ما شابه.
اوباما ابتعد عن كلمة الارهاب، وعملت ادارته على اعادة تعريف سياستها لمواجهة هذه الظاهرة، فالغت عبارة "التطرف الاسلامي"، على اعتبار انه لا يعود لمسؤولي حكومة الولايات المتحدة تحديد التطرف في هذا الدين او ذاك، واستبدلتها بعبارة "العنف المتطرف".
ثم قامت وزارة الخارجية بانشاء مكتب اطلقت عليه تسمة اسم "مكافحة العنف المتطرف" – او "سي في اي" تلخيصا.
واعتبر اوباما ان مكافحة اميركا للتطرف يجب ان تقتصر على امن الولايات المتحدة فقط، فتحولت الحرب الدولية التي اطلقها بوش على الارهاب الى مجرد تعاون استخباراتي اميركي مع حكومات العالم – الصديقة منها والعدوة – في مواجهة العنف حول العالم، وخصوصا منه الذي قد يصل الى المطارات او الشواطئ الاميركية.
"مكافحة العنف المتطرف" هي حجر الزاوية في سياسة اوباما الخارجية. حتى مقاربة واشنطن للملف النووي الايراني، جاءت من هذه الزاوية، اذ اعادت ادارة اوباما كتابة سياسة استخدام اميركا لترسانتها النووية، التي كانت متمحورة حول مواجهة صاروخية تقليدية مع دول منافسة، الى مواجهة مع دول مارقة ممكن ان تسلم هذه التكنولوجيا الى مجموعات "العنف المتطرف".
اما صواريخ ايران الباليستية، وهي قطعا لا تهدد الامن القومي الاميركي حتى لو تمت اضافة رؤوس نووية اليها، فهي تأتي في المرتبة الثانية في السياسة الاميركية الخارجية الحالية، خصوصا وان صواريخ ايران النووية ستكون موجهة اكثر نحو جيرانها منها نحو اميركا التي يصعب ان تطالها.
اذن، امن الولايات المتحدة في مواجهة "العنف المتطرف اولا"، ثم معالجة الملف النووي الايراني، ايضا من باب الامن الاميركي لا حرصا على اصدقاء اميركا في المنطقة او مصالحهم، ثم ملف السلام العربي الاسرائيلي.
في خضم هذا الانقلاب الاميركي في السياسة الخارجية، من الطبيعي ان تنحدر اهمية الملف العراقي الى ادنى مستوياتها، فالعراق لا يشكل اي نوع من الخطر الارهابي على الداخل الاميركي، وهو ما يبدد الاسطورة التي اطلقتها ادارة بوش عن ارتباط العراق بالارهاب العالمي، وهو ما وفر في حينه العذر لاعلان واشنطن الحرب.
اما الدليل الابرز على اصرار الاميركيين على قلب الصفحة ونسيان العراق والعراقيين فهو مسارعة الجيش الاميركي الى اصدار بيانات تؤكد على انسحابه من العراق بعد كل تفجير، وهو ما يشي بان اميركا سوف تترك للعراقيين تقرير مصيرهم، بغض النظر عن استتباب الوضع الامني او عدمه في الوقت الذي سيرافق الانسحاب الاميركي.
المشكلة في الرؤية الاميركية الجديدة نحو العراق هي في السياسيين العراقيين الذين يتصرفون وكأنهم ما زالوا في قلب الاهتمام العالمي عموما، والاميركي خصوصا، فيما الوقت يداهم العراق ككل من اجل النهوض على قدميه.
السياسيون العراقيون منهمكون بتفاصيلهم المملة: مالكي، علاوي، جعفري، وحكيم، وصدر، وهاشمي، وبعث، ودعوة، ومجلس ومجالس، وكأن العالم سوف يتوقف من دون فلان رئيسا للحكومة او علان في وزارة كذا وكذا، والطامة الكبرى ان معظم السياسيين العراقيين يسودهم حب الذات، ويذهبون الى دمشق او طهران او الرياض ليبتسموا امام كاميرات الصحافيين، ويطلقوا تصاريح لا تعني شيئا للعراق او للعراقيين.
وفيما الامبراطورية الاميركية تلتفت الى داخلها، وتعزز امنها الذاتي، وتتغير جذريا بين رئاسة بوش وخلفه اوباما، لا يطرأ اي تغيير على العراقيين وساستهم، وتستمر حلقة العنف المعزز بصراعات قبلية تافهة.
العالم يعيش اليوم من دون اميركا، ومشكلة العراق انه لم يقدر على تحسين اوضاعه حتى عندما افردت له الولايات المتحدة كل امكاناتها، فكيف سيكون وضع العراق وهو يخرج من دائرة الضوء والاهتمام العالمي؟ الجواب عن هذا السؤال، للأسف، ليس بيد اي من السياسيين العراقيين، لانهم خفيفو الاوزان، فيما يتطلب العراق اصحاب رؤى ورجال دولة لم نر ايا منهم حتى اليوم.
* كاتب ومراسل "العالم" في الولايات المتحدة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق