حسين عبد الحسين
في أول يوم من العام 1974، تسلم ابراهام بيم حاكمية مدينة نيويورك وهي في وضع يرثى له. كان عجز الخزينة بلغ ملياراً ونصف المليار دولار. وبعد سلسلة من الإجراءات تضمنت خصخصة المرافق العامة، التي كانت تكبد المدينة خسائر كبيرة، وتقليص عدد الموظفين، والتخلي عن دعم المساكن الشعبية لذوي الدخل المحدود، وخفض ضرائب الدخل لتشجيع الأغنياء على السكن في المدينة، وخفض ضرائب الشركات لتحفيز الأعمال، خرج بيم من الحاكمية في آخر يوم من العام 1977 وفي خزينة مدينة نيويورك فائض بلغ 200 مليون دولار.
تلك التجربة الاقتصادية التي عرفت بالـ"نيوليبرالية" انهت أربعة عقود من "السياسات اليسارية" القاضية بلعب الحكومة لدور الراعي الاجتماعي، وتبنتها في العام 1979 رئيسة حكومة بريطانيا مارغريت تاتشر، وبعدها بعام رئيس الولايات المتحدة، رونالد ريغان، فقلبت السياسة المذكورة تراجع الاقتصادين البريطاني والأميركي إلى نمو هائل استمر أكثر من ثلاثة عقود حتى اندلاع الأزمة المالية في خريف العام 2008.
ومع انقلاب الاقتصاد إلى اليمين، كذلك فعلت السياسة، فتصاعد الخطاب المعادي لليسار المحلي والعالمي، وأطلق ريغان تسميته الشهيرة "امبراطورية الشر" في وصف الاتحاد السوفياتي، ونسيت أميركا هزيمتي كوريا وفيتنام، واستبدلتهما بنصرين ساحقين في الكويت وكوسوفو.
وعندما وجدت أميركا نفسها أمام هجوم الجهادية العالمية في 11 ايلول/سبتمبر 2001، استعادت سياستها الخارجية نفسها المستندة إلى قوتها العسكرية الجبارة في أفغانستان في 2001 والعراق في 2003.
وعلى الرغم من أن خسائر الحربين لم ترتق إلى خسائر كوريا وفيتنام، إلا أن نتائجهما جاءت مخيبة للآمال، ودفعت الرأي العام الأميركي إلى إعادة النظر في دور بلاده العالمي، وترافق ذلك مع أزمة 2008 المالية وما تلاها من اتجاه نحو اليسار، على الأقل اقتصاديا، مع إقرار الرئيس باراك أوباما قانوني الرعاية الصحية ومراقبة المصارف.
في أول يوم من هذا العام، تسلم بيل ديبلازيو حاكمية مدينة نيويورك، في وقت أشارت التقارير إلى أن أغنى 300 شخص في العالم، ومعظمهم من الأميركيين، أضافوا نصف ترليون دولار إلى ثرواتهم في العام 2013.
ديبلازيو يعد بإعادة توزيع الثروات عن طريق زيادة في الضرائب على من يجني نصف مليون دولار وأكثر في السنة. ولا شك أن تجربته في الاقتصاد ستكون محط أنظار كثيرين، وأن التفاعل الشعبي معها سيظهر المزاج العام للأميركيين، وسيظهر إن كان انتخاب هذا الديموقراطي الآتي من أقصى اليسار سياسياً واقتصادياً يلقى رواجاً لدى عامة الأميركيين، أم انه فلتة شوط.
وفي حال تبين أن المزاج الشعبي يؤيد ديبلازيو وسياساته، سيعني ذلك جنوح أميركا أكثر نحو اليسار، مع ما يعني ذلك من تهديد للوسط ووسط اليسار، ناهيك عن تهديد اليمين الجمهوري المختل وزنه أصلاً منذ العام 2008.
هذا يعني أن مرشحة الحزب الديموقراطي، وزيرة الخارجية السابقة، هيلاري كلينتون، التي تبدو أوفر حظاً، وهي من يسار الوسط، قد تجد نفسها في موقف حرج في حال استمرار تصاعد الموجة اليسارية.
ويطلق الأميركيون على هيلاري وزوجها، الرئيس السابق بيل كلينتون، تسمية "ديموقراطيي ريغان"، وهؤلاء تيار عريض في الحزب الديموقراطي تبنى مجموعة كبيرة من مبادئ "النيوليبرالية" الاقتصادية وسياسات ريغان الخارجية. وهو ما فعله "عمال تاتشر" من أمثال رئيس الحكومة البريطانية السابق طوني بلير، الذي وجد نفسه كتفاً إلى كتف في تحالف متين مع الرئيس الجمهوري السابق اليميني جورج بوش الابن.
لكن مع أوباما، واليوم ديبلازيو، يبدو أن العودة إلى اليسار صارت اكثر احتمالاً، وأن كلينتون، التي وجدت نفسها في العام 2008 امام مرشح من حزبها الديموقراطي إلى يسارها هو أوباما، ستجد نفسها في العام 2016 في مواجهة مرشح ديموقراطي آخر قد يكون أكثر يسارية هذه المرة وينجح في إلحاق الهزيمة بماكينة عائلة كلينتون السياسية الهائلة، كما فعل أوباما.
وقد تكون المرشحة هذه المرة، امرأة، ما يقلص أكثر من بريق كلينتون كأول امرأة يمكن أن تصل إلى الرئاسة.
السناتور عن ولاية ماساشوستس، اليزابيث وارين، مثلاً، هي من أبرز اليساريين المؤيدين لمبدأ توزيع الثروة، على غرار ديبلازيو، ويبدو أن حظوظها في ارتفاع، خصوصاً في حال قدم ديبلازيو نجاحات في نيويورك يمكن لوارين استعارتها لبرنامجها وبناء حملتها عليها.
على أن تقدم اليسار على الوسط داخل الحزب الديموقراطي، وفي أميركا عموماً، من شأنه أن يؤدي إلى تغييرات كبيرة في السياسة الخارجية، وأن يعيدها إلى عزلة شبيهة بتلك التي عاشتها الولايات المتحدة في حقبة ما بين الانهيار الاقتصادي في نهاية العشرينات، ودخول أميركا الحرب العالمية الثانية في العام 1941.
في الحقبة المذكورة، كما اليوم، استغرقت شؤون الخروج من الأزمة الاقتصادية اهتمام الأميركيين وحكامهم اليساريين، وتم إنشاء "صندوق الضمان الاجتماعي" في عهد الرئيس السابق فرانكلين روزفلت، ولم تفلح كل الدعوات لانخراط أميركا في الحرب الكونية، إلى أن زارتها تلك الحرب في عقر دارها إبان هجوم اليابانيين على قاعدة بيرل هاربور.
هكذا، إن كان للتاريخ أي دليل، قد يستمر الرأي العام الأميركي في توغله يساراً والاهتمام بشؤون الاقتصاد وتوزيع الثروة، ما يعني ابتعاده أكثر فأكثر عن شؤون العالم، وهو ما صار بادياً للعيان في أرجاء المعمورة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق