حسين عبدالحسين
كيف يمكن لأكبر قوة اقتصادية عالمية، لا تزال المؤشرات اليوم تدل على أنها ستظلّ متربّعة على عرش أكبر اقتصاد في العالم في المستقبل المنظور مع ما يعني ذلك من استمرار لتفوقها العسكري والسياسي، أن يتقلص نفوذها العالمي إلى حدّ يجعل منها نداً لدولٍ أقل شأناً منها بكثير؟ وكيف حوّل الرئيس الأميركي باراك أوباما سياسته الرامية إلى إنهاء حربي العراق وافغانستان إلى إنهاء الدور الاميركي حول العالم ككل؟
الإجابة محيّرة، ولكنها قد تأتي من وزير الدفاع السابق روبرت غيتس، الذي فجّر مفاجأة سياسية من العيار الثقيل في العاصمة الأميركية في كتابمذكراته الذي يحمل عنوان "الواجب: مذكرات وزير حرب" وشن فيه هجوماً حاداً على الرئيس الأميركي. ومما يقوله غيتس إن أوباما "لا يؤمن بالاستراتيجية التي يضعها هو نفسه".
وكتاب غايتس حول فشل السياسة الخارجية لأوباما من المرتقب صدوره الأسبوع المقبل، في الأسبوع الذي يتوقّع أن يعيد فيه "صندوق النقد الدولي" النظر بتوقعاته لنمو الاقتصاد العالمي للعام الحالي، فيرفعها إلى مستويات أعلى من ثلاثة في المئة. والارتفاع، حسب مسؤولي الصندوق، مدفوع هذه المرة – ليس بفضل اقتصادات النامية في شرق وجنوب آسيا - بل بالنمو الكبير الذي حققتّه الولايات المتحدة، والذي بلغ 4,1 في المئة في الفصل الثالث من العام الماضي.
وفيما تتنطح الصين، صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم، لإبقاء نسبة نموها فوق 7,5 في المئة من أجل خلق كمية الوظائف المطلوبة سنوياً للحفاظ على السلم الاجتماعي داخل البلاد، يظهر اقتصاد أميركا انخفاضاً في العجز، مدفوعاً بارتفاع الصادرات الأميركية التي بلغت في شهر تشرين الثاني الماضي 195 ملياراً، مقارنةً بـ202 مليار دولار للصين. وكانت صادرات الصين عام 2012 بلغت تريليونَي دولار مقابل تريليون ونصف للأميركيين. ولكن يشير شهر تشرين الثاني الماضي إلى شبه انعدام في الفارق.
وبعد عقدين على صعود الصين الهائل وتعثر أميركا والغرب عموماً، لا يبدو أن الأرقام الاقتصادية لا تزال تشير إلى حتمية تحوّل الصين إلى أكبر اقتصاد، وتالياً أقوى قوة سياسية وعسكرية في العالم، بل باتت ترجّح بقاء الولايات المتحدة في المرتبة الأولى.
لكن، على الرغم من نهضتها الاقتصادية، لم تعد الولايات المتحدة إلى سابق عهدها من الناحية العسكرية أو السياسية.
في اليابان، سمحت أميركا، بصمت، للصين بإقامة مجال جوي وطني فوق جزر متنازع عليها. وفي بحر الصين، اعترضت سفن صينية مدمرة عسكرية أميركية، فحولت الأخيرة مسارها من دون أن تثير نزاعاً أو أن تدخل في مواجهة.
وفي الشرق الأوسط، كما في الشرق الأقصى، لا تزال البرودة تسود طباع الأميركيين، الذين شغلت سياساتهم العالم على مدى القرن الماضي. وتبدو أميركا في موقف القوة الثرثارة، فيما برزت على الساحة الشرق أوسطية قوى أخرى، مثل روسيا وإيران، تحدّت الولايات المتحدة في أكثر من موقعة عسكرية وسياسية، وتغلبت عليها. ومع ذلك، لم تبدِ واشنطن أي اكتراث.
وفي واشنطن، يتمسك مسؤولو إدارة الرئيس باراك أوباما بسياسة "الاستدارة" نحو الشرق الأقصى مع ما تَشي به هكذا سياسة من مراهقة فكرية، إذ يصعب فهم كيف يمكن لأميركا مواجهة الصين أو روسيا في حال رُفِعت العقوبات عن إيران واستكملت الأخيرة نشاطها إلى جانب الدول التي تعمل على تقليص النفوذ الاميركي العالمي.
لكن إذا ما اعتبرنا أن حجم الاقتصاد يدلّ على النفوذ العسكري والسياسي لأي دولة، يصعب فهم كيف يمكن لدولة مثل إيران أن تهزم الولايات المتحدة التي يبلغ حجم اقتصادها 17 ضعفاً حجم نظيره الإيراني، وأكثر من ثمانية أضعاف الاقتصاد في روسيا، وكيف يمكن للأخيرة، التي يبلغ حجم اقتصادها بأكمله ضعف موازنة الصحة الأميركية سنوياً، أن تتصوّر نفسها نداً لأميركا؟
الإجابة، تكراراً، تكمن في شخصية أوباما وانعدام خبرته في السياسة الدولية، فقوة الولايات المتحدة، حسب رأي الكثير من الخبراء، ليست في تراجعٍ أو أفولٍ، إنما سياسات أوباما هي التي تقود أميركا نحو الابتعاد عن الشؤون الدولية والتفرّغ للشؤون الداخلية.
والانعزال الأميركي، الذي يقوده أوباما، يعكس من دون شك المزاج العام للأميركيين، وهو أمر يحدث عادةً بعد المواجهات العسكرية التي تخوضها البلاد، مثلما حدث إثر الحربين الكونيتَين وحربَي كوريا وفيتنام.
وكان يمكن للابتعاد الاميركي عن المسرح الدولي أن يكون أقلّ حدة بكثير لو أن الرئيس الأميركي حاول التخفيف منه، أو دفع الأميركيين إلى البقاء منخرطين عالمياً للحفاظ على دور بلادهم ومصالحها ومكتسباتها وتحالفاتها في أرجاء المعمورة.
إلا أن ما لا شكّ فيه هو أن أوباما يكرّس الانعزال الأميركي، ويعتقد أن أي دولار يمكن أن ينفقَهُ في الداخل بدلاً من الخارج يصبّ في المصلحة الاميركية.
لذلك، لا "استراتيجية" لدى أوباما، لا في أفغانستان ولا حول العالم، وهو الأمر الذي قضّ مضجع غيتس، وأجبره على كبت إحباطه في فترة عمله كوزيرٍ، ثم دفعه إلى شنّ هجوم يندرُ أن يقوم به مسؤولون سابقون في الإدارة ضد رئيس حالي.
"من أيّامي الأولى في إدارة أوباما، يكتب غيتس، تحوّل الشك وانعدام الثقة من قبل كبار مسؤولي البيت الابيض - بما في ذلك الرئيس ونائب الرئيس- إلى مشكلة كبيرة لي، ووجدت نفسي مضطراً لإدارة العلاقة بين القائد الأعلى (أوباما) وقياداته العسكرية".
هكذا، كانت علاقة أوباما سيئة منذ اليوم الأول بوزير دفاعه، الذي احتفظ به من إدارة سلفه جورج بوش، والذي يكبر الرئيس بـ20 عاماً، وسبق أن عمل في معظم الإدارات السابقة. وكما علاقته بوزير دفاعه، كانت علاقة أوباما بكبار القيادات العسكرية مهزوزة كذلك.
رواية غايتس، إن صدقت، تدلّ على أن أوباما، وحده، هو الذي أوصل أميركا الى أفولها الحالي، وهو الذي جعل من أكبر اقتصاد وأقوى قوة عسكرية في العالم تتحوّل إلى بلد من وزن فرنسا أو إيطاليا، مع ما يعني ذلك من اختلال في الموازين الدولية عموماً، والشرق أوسطية خصوصاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق