نيويورك - حسين عبدالحسين
تنصب الأنظار على حاكم مدينة نيويورك بيل ديبلازيو الذي تسلم منصبه مطلع العام الحالي، إذ يعتقد معظم المراقبين أن الحاكم يأتي من مدرسة اقتصادية يسارية واجتماعية ليبرالية، وسيبدأ تجربة اقتصادية جديدة من شأنها أن تؤثر في مسار الاقتصاد الأميركي وربما العالمي.
ولنيويورك أهمية تاريخية لجهة التجارب الاقتصادية، ففي مطلع السبعينات، عانت المدينة أزمة اقتصادية خانقة وكادت أن تعلن إفلاسها لو لم ينفذ حاكمها أبراهام بيم، الذي تسلم منصبه في اليوم الأول من عام 1975، سلسلة إجراءات قضت بتخلي حكومة المدينة عن السكن الشعبي الذي كانت تكفله لذوي الدخل المحدود، وترافق ذلك مع تخصيص عدد من المرافق العامة التي كانت تكبد الخزينة خسائر كبيرة.
ومع نهاية ولاية بيم في اليوم الأخير من عام 1977، انقلب عجز خزينة مدينة نيويورك من 1.5 بليون دولار قبل تسلمه الحاكمية إلى فائض قيمته 200 مليون دولار مع نهاية ولايته. وباتت تجربة بيم التي تمحورت حول التخصيص وتقليص النفقات العامة، وخفض الضرائب لتشجيع المستثمرين وأصحاب الثروات على العمل والسكن في المدينة، تُعرف اليوم بالمدرسة النيوليبرالية، وهي سياسة اقتصادية تبنتها رئيسة حكومة بريطانيا الراحلة مارغريت تاتشر إبان تسلمها الحكم في أيار (مايو) 1979، وحذا حذوها رئيس الولايات المتحدة الراحل رونالد ريغان، الذي دخل البيت الأبيض في كانون الثاني (يناير) 1980.
وأدت «التاتشرية»، كما الـ «ريغانوميكس» نسبة إلى سياسة ريغان الاقتصادية، إلى قلب التراجع الاقتصادي في كل من بريطانيا والولايات المتحدة رأساً على عقب، وبدأ الاقتصادان يسجلان نسب نمو مرتفعة بعد عقد أو أكثر من التباطؤ والانحدار. وأصبحت العواصم الغربية تقدم النيوليبرالية على أنها «قياس واحد للجميع»، كما بات البنك الدولي وصندوق النقد يربطان قروضهما ومساعداتهما بتبني الدول هذه المبادئ الاقتصادية، على رغم أن نتائج «النيوليبرالية» تفاوتت بينها. وفي حالات مثل تركيا والمسكيك، أدت إلى كوارث اقتصادية تمثلت في انهيار العملة الوطنية وزعزعة الثبات الاجتماعي.
وبلغت النيوليبرالية ذروتها عام 2007، ولكنها ما لبثت أن انهارت مع الأزمة المالية في خريف عام 2008، أي بعد 33 عاماً على بدء التجربة في مدينة نيويورك. ولأن الاقتصادات الأكثر نمواً، وعلى رأسها الصين، أصبحت تتباهى بثبات ما تسميه نظام «رأسمالية الدولة»، وهو مزيج من الرأسمالية الحرة وتدخل الدولة في السوق، تخلت العواصم الغربية عن النيوليبرالية وسنت قوانين تلجم مجازفات المؤسسات المالية وتحد من المضاربات التي من شأنها أن تؤدي إلى فقاعات وانهيارات. وفي هذا السياق أقرّت الولايات المتحدة سلسلة قوانين، أبرزها قانون الرعاية الصحية عام 2009، وقانون «دود - فرانك» الذي وضع قيوداً كثيرة على عمل المصارف والمؤسسات المالية ومنعها من المضاربة بإيداعات زبائنها، وفرض عليها زيادة في رساميلها واحتياطاتها. إذاً، الولايات المتحدة ابتعدت من اليمين إلى الوسط وربما اليسار، في سياساتها الاقتصادية منذ العام 2009 وحتى اليوم.
ومع دخول قانون الرعاية الصحية حيز التنفيذ بداية تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، بدأت الحكومة الفيديرالية رحلة طويلة ستقتطع بموجبها تريليوني دولار، خلال العقد المقبل من أصحاب الدخل المرتفع ومن عائدات شركات التأمين الصحية والمستشفيات وشركات صناعة الأدوية والمعدات الطبية، لتنفق هذه الأموال على 25 مليون أميركي كانوا يفتقرون إلى أي رعاية صحية.
وتأمل الحكومة بأن يساهم قانون الرعاية المذكور بلجم فاتورة البلاد الصحية، التي تنمو منذ أكثر من عقد وحتى عام 2010 بنسب مئوية سنوياً فاقت نسب النمو الاقتصادي، وبمواجهة تكاليف الشيخوخة، التي يتوقع أن تعانيها البلاد في السنوات المقبلة بسبب تدني مستويات الإنجاب وارتفاع معدلات الأعمار، ما يعني زيادة في عدد المتقاعدين مقارنة بعدد العاملين.
ولكن ديبلازيو يعد بأن ينفذ في مدينة نيويورك سياسات يسارية أبعد من تلك التي تبناها الرئيس باراك أوباما. وقال في دردشة مع الصحافيين في منزله في حي «بارك سلوب» في منطقة بروكلين، قبل أيام من انتقاله إلى قصر الحاكم: «لا نطالب الأغنياء بمبالغ أكبر بهدف معاقبة النجاح، ولكن هناك أزمة صامتة هي أزمة عدم المساواة الاقتصادية». وقدم مقالاً يشير إلى أن أغنى 300 شخص في العالم، ومعظمهم أميركيون، أضافوا نصف تريليون دولار إلى ثرواتهم عام 2013، أي نصف إنفاق الحكومة الأميركية السنوي.
وأوضح أن «الأرقام تشير إلى أن سكان نيويورك ممن يبلغ مدخولهم نصف مليون دولار سنوياً وأكثر، ستزداد ضرائبهم خلال ولاية ديبلازيو 973 دولاراً سنوياً، أي أقل من 3 دولارات يومياً، ما يعادل سعر فنجان قهوة في ستاربكس». ولفت إلى أن «كل الأموال الضريبية الإضافية ستُستخدم للإنفاق على المدارس العامة، وفتح صفوف حضانة تسمح للعائلات التي يعمل فيها كل من الأب والأم بأن يودعوا أطفالهم أثناء دوامهم من دون تكبيدهم أموالاً طائلة على الحضانات الخاصة».
إن إعادة توزيع الثروات هي أقل ما يقال في ديبلازيو، الذي دل انتخابه في أكبر مدينة أميركية على أن المزاج العام يؤيد سياسات من هذا النوع، ما أثار حفيظة الجمهوريين، فعنون موقع «دردج ريبورت» اليميني صفحته الرئيسة بالقول «نيويورك تتشح باللون الأحمر» في استقبال ديبلازيو، للدلالة على اقترابها من الشيوعية أو الاشتراكية. أما نتائج سياسات ديبلازيو، فمن المبكر الحكم عليها، ولكن كما في عام 1975، لا شك في أن كثيرين يراقبونها عن كثب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق