واشنطن - حسين عبدالحسين
لا يبدو أن النمو الاقتصادي، الذي انفردت به الولايات المتحدة بين اقتصادات العالم الكبرى على مدى السنوات الأخيرة، ساهم في توجيه النقاش الاقتصادي الذي رافق الانتخابات الأميركية. فاقتصاد أميركا أوقف انحداره الذي تلى «الركود الكبير» عام ٢٠٠٨، وعاد إلى النمو مع منتصف ٢٠٠٩، محققاً ٣,٩ في المئة خلال الفصل الثالث. لكن منذ ذلك التاريخ، استمر النمو الأميركي بالتأرجح، وحقق نسب نمو بلغت ٤,٦ في المئة في الفصل الرابع من عام ٢٠١١، و٤,٦ في الفصل الثاني من ٢٠١٢، و٤,٣ في الفصل الثالث من ٢٠١٣.
لكن نسب النمو التي تقارب ٤ في المئة أو تتجاوزها كانت قليلة ومبعثرة، وفصلت بينها نسب منخفضة، بما في ذلك رُبعا تقلص اقتصادي في مطلع العامين ٢٠١١ و٢٠١٤. هكذا، أنهى الرئيس باراك أوباما ثماني سنوات، أو ٣٢ فصلاً اقتصادياً، في الحكم مع معدل نمو بلغ ٢ في المئة، وهي النسبة ذاتها التي شهدها الاقتصاد الأميركي في ولايتي سلفه جورج بوش بين ٢٠٠٠ و٢٠٠٨، وهي تمثل انخفاضاً عن ٣,٨ في المئة التي شهدتها البلاد في العقد الأخير من القرن الماضي تحت رئاسة بيل كلينتون، وقبلها ٣,٦ في المئة التي عاشتها أميركا في عهد الرئيس الراحل رونالد ريغان.
تراجع النمو الأميركي بواقع نقطة مئوية بين العقدين الأخيرين من القرن الماضي من جهة، والعقدين الأولين من هذا القرن، من جهة ثانية، دفع غالبية الاقتصاديين الأميركيين إلى اعتبار هذا التراجع غير مرتبط بالسياسات الحكومية، بل بتغيرات بنيوية في الاقتصاد الأميركي، أبرزها شيخوخة السكان، وخروج عدد كبير من الأميركيين من سوق العمل، ما طرح نقطة مئوية من معدل النمو السنوي بين الفترتين.
كذلك، عزا بعض الاقتصاديين، مثل وزير الخزانة السابق ورئيس جامعة هارفرد المرموقة لاري سامرز، إمكان الانخفاض المزمن للنمو إلى «اقتصاد المشاركة» الذي سهلته فورة تكنولوجيا التواصل. ويعتبر سامرز أن الثقافة الشعبية الأميركية انتقلت من شراء البضائع، مثل البيوت والسيارات، إلى شراء «التجارب»، مثل الإنفاق على المطاعم والسياحة، وهو انتقال ساهم في ضمور الصناعة الأميركية، وعزّز صعود قطاع الخدمات. ولأن الصناعة تقدم وظائف أكثر وزناً من الخدمات، شهدت المداخيل الأميركية تراجعاً، أو على الأقل صارت تعاني من جمود.
أطلّ دونالد ترامب على الأميركيين في حملته الانتخابية الرئاسية، وقدم لهم وعوداً بإعادة نمو الناتج المحلي إلى ٤ في المئة سنوياً، وهو ما لم تشهده أميركا منذ عهد الرئيس الراحل ليندون جونسون في الستينات. كما وعد بالعمل على وقف عملية «شحن الوظائف» الأميركية إلى المكسيك ودول آسيا، وهي الوعود التي حملته إلى الانتصار بفارق ضئيل في ولايات «حزام الصدأ»، التي عانت اقتصادياً بسبب إقفال معاملها التي انتقلت إلى دول حيث كلفة الإنتاج أقلّ.
وعود ترامب الاقتصادية لا تبدو بعيدة المنال فحسب، بل هي متناقضة نظرياً. فهو وعد بخفض الضرائب على الشركات من ٣٥ إلى ٢٥ في المئة لتشجيع رأس المال على الاستثمار في الولايات المتحـــدة، وإطلاق عنان المستثمرين، ما من شأنه رفع النمو وتالياً خلق وظائف. في الوقت ذاته، وفي سياق يناقض وعــود إطلاق حرية الشركات، هدد ترامب الشركات التي تنقل معاملها إلى خارج أميركا بفرض تعرفات جمركية تبلغ ٣٥ في المئة على البضائع التي تستوردها إلى السوق الأميركية، ما يعني أنه يعد بإطلاق حرية الشركات، ويفرض عليها في الوقت ذاته موقع إنشاء معاملها.
ومن التناقضات التي وعد بها ترامب أيضاً، إصراره على «العمل لمصلحة» العمال الأميركيين، لكنه في الوقت ذاته شكل حكومة فيها الكثير من أصحاب الملايين، ممن سيعملون على خفض الضرائب على مداخيلهم، وتحطيم القوانين التي وضعها أوباما لمنع المضاربة في أسواق المال. كما أطل ترامب ليستعرض رجال الأعمال من زواره من حول العالم، الذين وعدوا باستثمار بلايين الدولارات في الولايات المتحدة.
لكن الاستثمارات الخارجية في أميركا لا تكفي لرفع نسبة النمو. كما يمكن لهذه الاستثمارات، الآخذة بالتدفق منذ فترة بسبب غياب إمكانات الاستثمار في كبرى اقتصادات العالم الأخرى المتباطئة، أن ترفع قيمة الدولار أمام العملات العالمية، ما يقلّص الصادرات الأميركية، ويؤثر سلباً في القطاع السياحي الأميركي، مع ما يعني ذلك من تراجع في النمو.
الاقتصاديون الأميركيون لا يرون خطة واضحة لدى ترامب لإعادة أميركا إلى نسب نمو تقارب ٤ في المئة سنوياً، بل يرجحون أن اقتصاد الولايات المتحدة قارب موعد ركوده الدوري بعد سبع سنوات من النمو. وكانت علامات هذا الركود بدأت تظهر، مع تراجع مبيعات شركات السيارات الأميركية، والانكماش في السوق العقارية، وانخفاض مؤشر الصناعة. ثم أن بلوغ البطالة معدلاتها الدنيا يشير كذلك إلى أن النمو الأميركي بلغ حده، وأن الحفاظ على مكتسبات أوباما الاقتصادية قد لا يكون بالسهولة التي يتصورها ترامب.
يبقى بندان في جعبة ترامب للنهوض الاقتصادي، أولهما خفض معدلات ضريبة الدخل، وهذا من شأنه أن يضع المزيد من الأموال في جيوب الأميركيين، ويعزز ثقة المستهلكين ويدفعهم على الشراء، ما يحرك عجلة العرض والطلب ويساهم في زيادة النمو.
وكان الرئيس السابق جورج بوش الابن تبنى هذا السيناريو بعدما تعثر الاقتصاد القوي، الذي تسلمه من كلينتون وتسلم معه فائضاً في الموازنة السنوية للحكومة الفيديرالية. إلا أن خفيض الضرائب الذي قام به بوش لم يعط الدفع المرجو، وهو بالكاد رفع نسب نمو الناتح المحلي لفصلين أو ثلاثة، قبل أن يسير الاقتصاد في ركب الفقاعة العقارية التي كانت تكبر. وبعد الانهيار الأميركي المالي عام ٢٠٠٨، انتهى «شهر العسل» الاقتصادي الذي فرضه اقتطاع الضرائب، وتحول الاقتصاد إلى الانكماش، ولكنه ركود ترافق مع عجز سنوي ضخم ساهم في انفلات نمو الدَين العام.
البند الأخير لدى ترامب للنهوض بالاقتصاد الأميركي مبني على إنفاق تريليون دولار على مدى العقد المقبل، لصيانة البنية التحتية الأميركية المتهالكة وتحسينها. وقد يبدو المبلغ المذكور ضخماً، لكن ١٠٠ بليون دولار سنوياً قد لا تؤثر كثيراً في اقتصاد يقارب ١٩ ترليوناً، على رغم اعتقاد الاقتصاديين أن كل دولار يتم إنفاقه على البنية التحتية يعود بثلاث دولارات على الاقتصاد. ثم أن أعمال صيانة البنية التحتية التي وعد بها ترامب تحتاج إلى تمويل حكومي، وهذا التمويل - بالترافق مع خفض الضرائب - من شأنه أن يؤدي لارتفاع حاد في العجز السنوي والدَين العام. وكان ترامب أعرب عن أمله في أن تكون مشاريع صيانة البنية التحتية عبارة عن مشاريع يمولها القطاع الخاص في شكل لا يؤثر في الدَين العام، لكن مشاريع الجعالة (بي أو تي) غالباً ما تقتصر على الطرق السريعة والجسور التي يمكن فرض رسوم على مستخدميها، ما يترك الطرق الفرعية خارج عملية التحديث التي أصبحت ضرورية.
سيتسلم ترامب من أوباما اقتصاداً معافى. صحيح أن الاقتصاد الأميركي لا يحلق كما في الثمانينات والتسعينات، لكنه ينمو في وقت يعاني معظم الاقتصادات الكبرى من الضمور. وترامب يعتقد أن خططه ستعيد الاقتصاد إلى أيام بريقه، على رغم تشكيك غالبية الاقتصاديين بذلك واعتبارهم أن ترامب قدم وعوداً اقتصادية غير واقعية، وأن أفكاره هي في الغالب مرتبكة ومتضاربة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق