واشنطن - حسين عبد الحسين
يردد الاقتصاديون جملة شهيرة أطاحت برئيسهم الجمهوري السابق جورج بوش الأب في انتخابات عام 1992 أمام منافسه الديموقراطي بيل كلينتون، وتقول: «إنه الاقتصاد أيها الأله»، لتعليل خسارة بوش معركة إعادة انتخابه رئيساً لولاية ثانية.
إذ على رغم النمو الاقتصادي القوي في زمن رونالد ريغان ونائبه بوش في الثمانينات، واجهت الولايات المتحدة ركوداً مع حلول الموسم الانتخابي. وعلى رغم محاولات بوش الحثيثة، خسر الانتخابات بسبب التعثر الاقتصادي.
منذ ذلك التاريخ، يعتبر الأميركيون أن نتائج الانتخابات مرتبطة في شكل رئيس بوضع الاقتصاد، إذ انتزع الديموقراطي باراك أوباما الرئاسة من الجمهوريين إثر «الركود الكبير» الذي أصاب البلاد في أواخر عهد جورج بوش الإبن عام 2007.
لكن الانتخابات الرئاسية الأخيرة كسرت قاعدة الارتباط بين وضع الاقتصاد وهوية الفائز. إذ على رغم تسجيل الاقتصاد نمواً بلغ 3.2 في المئة في الربع الثالث من العام الانتخابي، وانخفاض البطالة إلى أدنى مستوياتها منذ ما قبل الركود عام 2007 إلى 4.6 في المئة، لم يختر الأميركيون رئيسهم من الحزب الديموقراطي الحاكم، بل آثروا انتخاب الجمهوري المعارض دونالد ترامب. وعلّلوا خيارهم بتردي أوضاعهم الاقتصادية، واعتبروا أنهم «لا يشعرون» بالبحبوحة المفترضة، على رغم المؤشرات الاقتصادية الإيجابية.
وسبب التباين بين المؤشرات وواقع الناخبين، وفقاً لعدد متنامٍ من الاقتصاديين الأميركيين، هو اتساع الفارق الطبقي في الولايات المتحدة. إذ يجني الأثرياء ثمار نمو الناتج المحلي، فيما لا يسجل مدخول النصف الأدنى من الأميركيين ارتفاعاً يذكر، ما يوسّع الهوة بين الأثرياء والأقل حظاً.
وكان هذا التباين الطبقي عنوان الكتاب الذي اكتسب شهرة واسعة في الأوساط الاقتصادية، للاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي بعنوان «رأس المال في القرن الحادي والعشرين»، في استعارة لتسمية كتاب الفيلسوف الألماني كارل ماركس «رأس المال». وبعدما أشار بيكيتي إلى أن الهوة في المداخيل تتسع بين الطبقات في الدول الغربية، رأى أن من شأن هذه الهوة التأثير سلباً في النمو الاقتصادي الغربي عموماً.
وأطلّ بيكيتي هذه المرة بدراسة ألّفها مع زميليـــــن له يدرّسان الاقتصاد في جامــــعة كاليفورنيا - بيركلي المرموقة، هما ايمانـــويل سايز وغابريال زوكمان. وحملت دراســـة الاقتصاديـــين الثلاثة عنـــــوان «توزيــع الحسابات الوطنية: الطرق والتقديرات في الولايات المتحدة»، وتناولت الدخل الفردي للأميركيين منذ العام ١٩١٣، استناداً إلى بيانات الرواتب والضرائب.
وأشارت الدراسة، إلى أن «معدل الدخل القومي للفرد قبل حسم الضريبة، ارتفع بواقع 60 في المئة منذ العام 1980، لكننا وجدنا أن المداخيل لم تزِد لدى نصف السكان الأدنى على سلم المداخيل، إذ بلغ معدل دخل الفرد 16 ألف دولار سنوياً». وأفادت بأن معدل دخل الفرد قبل الضريبة «ارتفع 40 في المئة لدى 90 في المئة من الأميركيين، لكنه ازداد في شكل حاد في رأس سلم المداخيل. ففي العام 1980، حصّل الواحد في المئة الأعلى دخلاً بين الأميركيين 27 ضعفاً ممّن هم في النصف الأدنى لناحية مداخيلهم، فيما هم يجنون 81 ضعفاً اليوم».
وفي انعكاس لنظرية بيكيتي في كتابه، لفتت الدراسة إلى أن ارتفاع مداخيل الأثرياء الأميركيين بين عامي 1913 و2000، نتج من النمو في معاملهم، لكن منذ العام 1980 انحصر سبب ارتفاع مداخيل الأثرياء الأميركيين بعائدات أموالهم».
واعتبرت الدراسة أن محاولة تقليص الفارق في رواتب النساء مع نظرائهم الرجال «ساهمت في التخفيف من عدم المساواة في المداخيل بين الأفراد، لكن حصة النساء تنخفض في شكل حاد كلما صعدنا على سلم الدخل. إذ تشكل النساء الأميركيات 11 في المئة فقط من أثرى الأميركيين (أو مجموعة 0.1 من الأميركيين الأعلى دخلاً في البلاد).
واستناداً إلى الدراسة، تظهر أرقام عام 2014 أن عدد الأميركيين ممّن يجنون دخلاً بلغ 234.4 مليون بمعدل مدخول سنوي بلغ 64400 دولار. وتبيّن الأرقام أن قبل الضرائب، يشكل النصف الأدنى من الأميركيين ممن يجنون 16200 دولار 12.5 في المئة من أصحاب الدخل. فيما تشكل 40 في المئة في النصف الأعلى 40.5 في المئة من أصحاب المداخيل بمعدل 65400 للفرد. أما العشرة في المئة الأكثر دخلاً، فيبلغ عددهم 23.44 مليون بدخل 304 آلاف دولار سنوياً.
وبعد الضريبة، تصبح هذه الأرقام على الشكل التالي، يجني النصف الأدنى 25 ألف دولار سنوياً وتصبح نسبتهم 19.4 في المئة من أصحاب المداخيل. فيما ترتفع نسبة الأميركيين في الطبقة الوسطى ارتفاعاً طفيفاً من 40.5 في المئة إلى 41.6 في المئة بدخل سنوي يبلغ 67.2 ألف دولار. وتنخفض نسبة الفئة الثالثة الأثرى من 47 إلى 39 في المئة. فيما ينخفض مدخول الفرد السنوي فيها من 304 آلاف إلى 252 ألف دولار سنوياً.
على صعيد نمو المداخيل، تشير الدراسة إلى أن المجموعات الأميركية الثلاث المصنفة وفق دخلها، تطورت مداخيلها على الشكل التالي: المجموعة الأدنى نما دخلها بنسبة واحد في المئة بين عامي 1980 و2014، مقارنة بنمو بلغ 102 في المئة بين عامي 1946 و1980. أما المجموعة الوسطى، فارتفعت مداخيلها 42 في المئة بين ١٩٨٠ و٢٠١٤ مقارنة بارتفاع بلغ 105 في المئة بين ١٩٤٦ و١٩٨٠.
أما مجموعة الأثرياء الأميركيين، فهي الوحيدة التي ارتفعت نسبة نمو مداخيلها، من 79 في المئة بين ١٩٤٦ و١٩٨٠ الى 121 في المئة بين ١٩٨٠ و٢٠١٤.
على رأس الأثرياء الأميركيين مجموعة صغيرة نسبتها 0.001 في المئة من أصحاب المداخيل، ويبلغ عدد هؤلاء 2344 أميركي فقط. هؤلاء، ارتفعت نسبة نمو مداخيلهم من 57 في المئة بين ١٩٤٦ و١٩٨٠ الى 636 في المئة بين ١٩٨٠ و٢٠١٤.
ينمو الاقتصاد الأميركي، لكن النمو يذهب إلى الأثرياء الأميركيين، فيما أكثر من نصف السكان لا يشعرون بالبحبوحة التي ترصدها المؤشرات الاقتصادية الإيجابية. هذا التباين هو الذي أطاح بالحزب الديموقراطي الحاكم، وهو ما قد يطيح بالحزب الجمهوري العائد الى الحكم، وهو حزب عائد مع وعود بمزيد من الاقتطاعات الضريبية للأثرياء، على أمل تشجيعهم على توظيف أموالهم في السوق، ما سيؤثر سلباً في الطبقات الأدنى وفقاً لدراسة بيكيتي وصحبه، حتى لو أظهر الاقتصاد مؤشرات نمو عالية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق