واشنطن - حسين عبد الحسين
لا يشتهر «الحزب الجمهوري» في الولايات المتحدة بنصرته العمّال، إذ يتبنى عقيدة يمينية تدعو إلى التمسّك باقتصاد السوق الحر ومصلحة رأس المال وأصحابه على حساب العاملين لديهم. والتصاق الجمهوريين بفكرة الحرية المطلقة للسوق، دفع غالبيتهم إلى معارضة إنفاق الرئيسين جورج بوش وباراك أوباما نحو تريليوني دولار إبان الركود الكبير عام 2008، لتثبيت وضع المصارف الأميركية وإنقاذ قطاع السيارات من الإفلاس، على اعتبار أن أي تدخل حكومي هو بمثابة «تشويش» على حرية السوق.
وقدّم الرئيس المنتخب دونالد ترامب وعوداً تخالف عقيدة الحزب، إذ أعلن مراراً أن خطته الاقتصادية تتمحور حول التصدي للتجارة الحرة لوقف نزيف الوظائف الذي تعانيه الولايات المتحدة، خصوصاً في مصانعها. وكرر ترامب، خلال إطلالاته الانتخابية، انتقاده للحكومات للإدارات المتعاقبة لسماحها للشركات الأميركية بنقل معاملها إلى الدول حيث كلفة الإنتاج منخفضة. وكرر الإشارة إلى شركة «يونايتد تكنولوجيز»، التي تنوي إقفال معملي إنتاج مكيفات «كاريير» في ولاية انديانا. وأعلنت الشركة نيتها تسريح 2100 عامل، ونقل 1400 وظيفة إلى معاملها في المكسيك.
وإثر انتخابه رئيساً، انخرط ترامب شخصياً في مفاوضات مع «يونايتد تكنولوجيز» لإقناعها بإبقاء الوظائف التي تنوي الاستغناء عنها في أميركا. وللشركة المذكورة عقود قيمتها 5.6 بليون دولار مع الحكومة الفيديرالية ثمن محركات مقاتلات عسكرية وقطع غيار، أي 10 في المئة من الواردات السنوية للشركة، وفق بيانات العام الماضي.
ويبدو أن ترامب لوّح بهذه العقود الحكومية أثناء المفاوضات، ووعد «يونايتد تكنولوجيز» بتحفيزات تشمل خفض الضرائب التي ينوي إقرارها على الشركات العاملة في الولايات المتحدة من 35 إلى 15 في المئة. وتحت الضغط، رضخت «يونايتد تكنولوجيز» ووافقت على الإبقاء على ألف وظيفة من أصل 2100. وعلى الفور، اعتبر ترامب ما قام به إنجازاً اقتصادياً، وسافر من مقره في نيويورك إلى انديانابوليس، عاصمة انديانا، للاحتفال.
ولكن انتصار ترامب في الحفاظ على نصف الوظائف في انديانا لا يشكل أساساً لسياسة اقتصادية واقعية للولايات المتحدة في عهده، إذ إن التلويح بعقود الحكومة الفيديرالية يعني أن الشركات المتعاقدة مع الحكومة وحدها ستُبقي على معاملها في البلاد، ما يعني أنها ستصنّع منتجات أغلى من منافسيها الذين يصنّعون في الخارج، ما سيفرض بدوره على ترامب رفع التعرفة الجمركية لحماية الصناعة المحلية، وسيجبر الدول التي تواجه تعرفات أميركية أن تواجهها بالمثل، فتخسر الشركات الأميركية، القادرة على التنافس، أسواقاً في الخارج، وتضطر إلى خفض إنتاجها وتالياً إقفال معاملها، من دون نقل المعامل إلى المكسيك أو أي دولة أخرى.
أما الشق الثاني من وعود ترامب بفورة اقتصادية، فمبني على نيته خفض ضريبة الشركات إلى 15 في المئة. وكان وزير المال الأول في عهد أوباما حاول خفض النسبة إلى 28 في المئة، لكنه لم ينجح في تمرير القانون، في وقت يبدي الكونغرس الجمهوري استعداده لخفض الضريبة إلى 25 في المئة.
ويعتقد خبراء أن خفض ضريبة الشركات إلى 15 في المئة سيؤدي إلى تراجع واردات الحكومة الفيديرالية من 6.6 تريليون دولار خلال العقد المقبل، إلى أربعة تريليونات فقط، ما من شأنه رفع العجز السنوي للموازنة العامة بمقدار الثلث، وهو ارتفاع يعارضه الأميركيون بغالبيتهم من الحزبين الجمهوري والديموقراطي.
وأطل وزير الخزينة المعيّن ستيفن منوكين ليقدم رؤية اقتصادية قال إن بموجبها ستعمد الإدارة المقبلة إلى خفض ضرائب الشركات، ما يحفزها على إعادة أموالها المخزنة في الخارج لتفادي تسديد الضرائب المتوجبة عليها في حال إدخالها إلى الولايات المتحدة. وللشركات الأميركية 3.7 تريليون دولار خارج الولايات المتحدة، وهي طلبت من أوباما مراراً «عطلة ضريبية» تسمح لها بإدخال هذه الأموال بضرائب مخفضة، ولكن أوباما رفض الطلب.
ويعتقد منوكين أن عودة رأس المال الأميركي سيؤدي إلى خلق وظائف وتحريك الاقتصاد، ولكن يفوته أن من شأن تكديس الدولار في خزائن المصارف الأميركية أن يرفع من سعر الدولار أمام العملات الأجنبية، ما يقلص من تنافسية الصادرات، وتالياً ينتقص من نمو الناتج المحلي ومداخيل الخزينة. ولا تعاني الشركات الأميركية نقصاً في السيولة لاستثماره في البلاد، وما الأموال التي تكدسها في الخارج إلا أرباح تعود في الغالب إلى الأثرياء الأميركيين، الذين لا تؤثر زيادة مداخيلهم في مصاريفهم، التي لا تكفي للتأثير في نسبة الاستهلاك المحلي.
وأكد منوكين أن الإدارة المقبلة تنوي خفض ضرائب كبار المتمولين من 39 إلى 33 في المئة، وسترفق ذلك بخفض ضرائب على عموم الأميركيين. ولكنّ خفضاً من هذا النوع يزيد مداخيل الأثرياء ما بين 12 و14 في المئة، وفق مراكز الأبحاث، ومداخيل متوسطي الدخل والفقراء ما بين 0.8 و1.8 في المئة فقط، ما لا يطلق عجلة الاستهلاك بالشكل الذي يتصوره ترامب ومنوكين.
ومن دون نمو يتراوح بين ثلاثة وأربعة في المئة، وهو أمر يعتقد اقتصاديون أنه متعذر بسبب شيخوخة السكان وإصرار ترامب على إقفال باب الهجرة أمام اليد العاملة، يصبح تعويض انخفاض الواردات الناتج من خفض الضرائب متعذراً، فيرتفع الدين العام مترافقاً بارتفاع في النمو لا يدوم أكثر من بضعة فصول اقتصادية، ثم يعاود التراجع.
وتعتبر حكومة ترامب حكومة الأثرياء، إذ يبدو أن الرئيس المنتخب يعتقد أن الأثرياء الذين يعرفون كيف يجمعون الثروات، قادرون على إثراء البلاد. ولكن أولوية الأثرياء في حكومة ترامب تبدو، حتى الآن، اقتطاع الضرائب المفروضة عليهم، أما الحديث عن نهضة اقتصادية من دون زيادة في الدين، فيبدو أنها أحلام مؤجلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق