واشنطن – من حسين عبدالحسين
تستمر الحملة التي تشنها وزارة الخزانة الأميركية ضد متبرعين كويتيين لسورية. الأسبوع الماضي، تصدرت الصفحة الأولى لصحيفة "واشنطن بوست" مقالة، هي الخامسة من نوعها في الاعلام الأميركي المكتوب منذ الصيف الماضي، نقلت كالعادة عن مسؤولين مجهولي الهوية في الوزارة امتعاضهم من سماح الكويت لقيام حملات تبرعات مالية يذهب جزء منها لمجموعات مقاتلة في سورية، مطالبين الكويت بوقف هذه الحملات.
ولأن مزاعم وزارة الخزانة الأميركية مليئة بالتناقضات، ولأن التصريحات العلنية الوحيدة في هذا الشأن جاءت على لسان مساعد وزير الخزانة لشؤون مكافحة تمويل الإرهاب دايفد كوهين، اتصلت "الراي" بوزارة الخزانة الأميركية مطالبة بتوضيحات.
وبعد استعداد مبدئي للتعاون، تراجع مسؤولو الوزارة، وقالوا ان لا إجابات لديهم، وزودوا "الراي" برابطين، واحد لخطاب كوهين في مارس الماضي، والآخر لدراسة صدرت عن مركز بروكنغز للأبحاث في ديسمبر. وأصر مسؤولو وزارة الخزانة على عدم ذكر أسمائهم، على الرغم من انهم لم يقولوا شيئا أصلا.
لماذا لم تجب وزارة الخزانة الأميركية عن أسئلة "الراي"؟ السبب الأول قد يعود لضحالة الاثباتات الأميركية وارتباطها بحفنة من التغريدات والاشاعات، التي غالبا ما يتم إعادة تدويرها على يد حفنة من الخبراء الاميركيين وتداولها حتى تصبح حقيقة.
منذ اندلاع الثورة السورية المطالبة بتنحي الرئيس بشار الأسد في مارس 2011 وحتى اليوم، قامت في سورية، حسب "مركز كارتر"، 5546 مجموعة مسلحة ومجلسا عسكريا، ما لبث عدد كبير منها ان اندمج في تنظيمات أكبر. وفي الدراسة التي أصدرها مركز بروكنغز للأبحاث في ديسمبر، أوردت المؤلفة اليزابيث ديكنسون ان في سورية ألف تنظيما مسلحا. من بين الاف المجموعات الثورية السورية المسلحة هذه، اثنين فقط تعتبرها الحكومة الأميركية إرهابية هي "جبهة النصرة" و"الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)".
والقانون الأميركي لا يحاسب ولا يلاحق الاميركيين، ولا الحكومات ولا المواطنين حول العالم، الا في حال تقديمهم مساعدة عينية مادية الى تنظيمات تضعها الحكومة الأميركية على لائحة التنظيمات الإرهابية. هذا يعني انه لو وجدت الأموال الكويتية الخاصة طريقها الى "لواء الحق المجاهد" في حمص، مثلا، او الى "الجبهة الإسلامية" في حلب، او "حركة حزم" في ادلب، فان لا مشكلة قانونية في ذلك. حتى ان وزير الخارجية جون كيري صرح في ديسمبر ان بلاده لا تعارض الاجتماع مع هذه الجبهة او مع مجموعات سورية مشابهة.
حتى النصرة وداعش تغيبان اليوم عن اللائحة الرسمية التي تحدثها دوريا وزارة الخارجية الأميركية على موقعها على الانترنت. اما السبب في ذلك، فيعود الى الخلافات المستجدة بين هاتين المجموعتين و"تنظيم القاعدة" الام. وكان مسؤولون اميركيون قالوا للـ "الراي" في وقت سابق ان تصنيف واشنطن لمجموعات مقاتلة في سورية في خانة التنظيمات الإرهابية يشترط تبني المجموعة المستهدفة مبدأ "الجهاد العالمي"، وان تحوي في صفوفها مقاتلين غير سوريين.
اذا، الشروط الأميركية لتصنيف مجموعات سورية إرهابية تنطبق حتى الآن على اثنين من الف فصيل مسلح يقاتل ضد الأسد، ما يعني انه حتى تكون التبرعات الكويتية الى الثوار السوريين ممنوعة، عليها ان تصل الى ايدي "النصرة" او "داعش". ووزارة الخزانة الأميركية تعلم ذلك، وكذلك مركز بروكنغز ومعظم الصحافيين الاميركيين الذين يكتبون حول الموضوع.
"بعض جامعي التبرعات ممن يعملون في بيئات اكثر تسامحا – خصوصا في الكويت وقطر – يطلبون تبرعات لتمويل متمردين متطرفين، لا لتلبية حاجات إنسانية"، قال كوهين في خطابه امام مركز أبحاث "امن اميركا الجديدة" في مارس. "متلقي هذه الأموال هم في الغالب مجموعات إرهابية، بما في ذلك فرع القاعدة في سورية، جبهة النصرة، وداعش، المجموعة التي كان اسمها سابقا القاعدة في العراق".
هذا الجزء من الخطاب، وأجزاء أخرى منه، تتطابق حرفيا مع المقابلة التي يفترض ان ديكينسون أجرتها مع مسؤول رفيع في وزارة الخزانة في نوفمبر 2013. اما الكلمة المفتاح في "نقاط كلام" وزارة الخزانة الأميركية فتكمن في قول ان الأموال الخليجية تذهب "في الغالب"، الى مجموعات إرهابية بما فيها النصرة وداعش، التي تعمد كوهين ربطها بالقاعدة لتأكيد البعد الإرهابي للأمر، فكوهين يعلم ان لا مشكلة لو ذهبت الأموال الخليجية الى مجموعات سورية مقاتلة ان كانت غير مصنفة إرهابية في واشنطن.
ويتابع كوهين ان الأموال الخليجية تمثل "تحد جدي" في سورية. "بعيدا عن دورها المزعزع للاستقرار في الصراع الدائر هناك، هذه المجموعات الحسنة التمويل والتجهيز قد تدير اهتمامها لشن هجمات خارج سورية، خصوصا عندما يعود من تم قلبهم الى راديكاليين وتم تدريبهم حديثا من المجندين الأجانب الى بلدانهم الام".
هذا يعني ان "التحدي الجدي" لا ينطبق الا على المقاتلين الأجانب في سورية، وهؤلاء يكادون ينحصرون في داعش وبدرجة اقل في النصرة، مع شبه انعدام تواجدهم في صفوف الفصائل السورية المسلحة الأخرى.
حتى دراسة ديكينسون تدرك ضعف حجتها، فالدراسة تدعي أصلا خوفها من مغبة إمكانية ارتداد الانقسام السني – الشيعي في سورية على الخليج، وخصوصا الكويت. ثم في متن الدراسة، تسعى ديكنسون لربط الأموال الكويتية بالإرهاب، على الرغم من عدم تقديمها ولا دليل واحد يمكن ان يربط الأموال الكويتية بأي من الفصيلين التي تصنفهما واشنطن إرهابيين في سورية، باستثناء قول ديكنسون ان "جبهة النصرة قد تكون تستلم أموالا من مجموعة مانحين، بقيادة غانم المطيري، وهو شخصية قبلية غير معروفة".
ولعلم ديكنسون بضعف حجتها، تحاول الربط بين الفصائل الثورية السورية، غير المصنفة إرهابية، والنصرة وداعش، بالقول ان الثوار السوريين يحاربون جنبا الى جنب مع هذين الفصيلين الإرهابيين ضد قوات الأسد، وهي حجة سقطت كليا في ظلّ المواجهة الدامية التي يخوضها ثوار سورية ضد داعش، وفي ظل توتر علاقتهم بالنصرة.
ودراسة ديكنسون حول تمويل الإرهاب في سورية لا تتطرق الى الجهة المقابلة، او الأموال التي تصل الى "حزب الله" اللبناني، المصنف إرهابيا في واشنطن منذ قرابة العقدين، وتحصر التمويل الشيعي بشخصية كويتية تنفق على موظفيها في سورية "العاطلين عن العمل" بسبب الأوضاع الأمنية.
بدوره، يتحدث كوهين -- بسذاجة -- عن العقوبات على إيران، التي تمول الحزب اللبناني المشارك في الحرب السورية، من دون ان يتطرق الى المليارات السبعة التي وصلت ايران بموجب اتفاقية جنيف المؤقتة حول ملفها النووي.
ان رفض وزارة الخزانة الأميركية الإجابة على استفسارات "الراي" يبدو سببه ضعف الحجة لديها أكثر منه التكتم على معلومات سرية. اما الحملة الإعلامية المتواصلة والمتمثلة بخمسة مقالات في صحف أميركية كبرى، ودراسة وخطاب، في فترة اقل من سنة، فيبدو ان أسبابها لا تمت الى موضوع تمويل الإرهاب بصلة، بل تتعلق أكثر برغبة كوهين، وعدد من الإعلاميين ممن هم على اتصال بمسؤولي الخزانة، برؤية الأموال تتوقف من جانب واحد من الحرب في سورية.
اما ديكنسون، فهي تعمل اليوم في موقع "آل مونيتور" لصاحبه رجل الاعمال السوري – الأميركي ومؤيد الأسد جمال دانيال، وهو ما قد يقول الكثير عن فحوى دراستها وعن الحملة برمتها ضد الكويت ومتبرعيها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق