لم تقل واشنطن يوما انها تريد ان ترى نهاية لنظام الرئيس السوري بشار الاسد. السياسة الاميركية انقلبت من سعيها اقناع النظام بـ «تغيير تصرفاته»، الى محاولة إقناع هذا النظام، عبر موسكو وطهران وفي جنيف، باستبدال رئيسه. واشنطن تريد بقاء نظام الأسد، حتى بعد رحيل بشار، وتعول على النظام في لعب دور بارز في مواجهة الفصائل المسلحة التي تصنفها اميركا إرهابية داخل سورية.
وتطلب ادارة الرئيس باراك أوباما من المعارضة المسلحة من غير تنظيمي «جبهة النصرة» و«الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) بمواجهة هذين التنظيمين عسكريا، من دون الالتفات الى ان مواجهة من هذا النوع تعطي قوات الأسد تفوقا على الثوار.
وبشيء من الوقاحة تطلب واشنطن من فصائل المعارضة المسلحة، التي ترفض ان تزودها بأي أسلحة او مساعدات «فتاكة»، ان تنخرط في الحرب ضد التنظيمات الإرهابية داخل سورية، وهو ما يجبر الثوار المعتدلين والدول الإقليمية الراعية لهم على التأكيد، ليل نهار، نيتهم القضاء عسكريا على التنظيمات الإرهابية، بهدف خطب ود واشنطن. حتى مع الإعلانات المتكررة والحرب التي يشنها الثوار على «جبهة النصرة» و«داعش»، تستمر واشنطن في تصلبها ضد تسليحهم والسماح لهم بمقارعة الأسد فعليا.
اما كيف يحارب «الجيش السوري الحر» «النصرة» و«داعش»، الاحسن تسليحا منه، من دون ان تزود واشنطن الحر بالسلاح، فأحجية لا يفهمها الا من يشاهد مسؤولي الإدارة الأميركية وهم يتجاهلون النزاع السياسي بين رئيس حكومة العراق نوري المالكي وخصومه، وهو نزاع يؤدي الى تقويض استقرار العراق بأكمله، ويقدمون للمالكي وقواته تدريبات عسكرية واسلحة ويساعدونه على إعادة وصل العلاقات التي قطعها المالكي نفسه مع العشائر في المناطق العراقية السنية المشتعلة.
وكانت التقارير داخل العاصمة الأميركية تحدثت ان القوات الأميركية الخاصة المتواجدة في الأردن تعمل على تدريب قوات عراقية خاصة حتى تقوم الأخيرة بعمليات عسكرية في غرب العراق.
الجنوب السوري، الذي كان للثوار فيه افضلية عسكرية حتى الأمس القريب، من المتوقع ان يشتعل كذلك، بإيعاز من اميركا وبعض حلفائها في المنطقة، وان ينقض الثوار بعضهم على بعض، مما سيمنح الأسد الوقت الكافي لإنهاء الثوار في ضواحي دمشق والتوجه جنوبا لإنهائهم هناك.
على ان التناقض الأكبر في سياسة واشنطن في سورية، والعراق، فيكمن في ان إدارة الرئيس أوباما لطالما تحدثت عن استحالة الحلول العسكرية في الشرق الأوسط، وضرورة ان يرتبط أي مجهود عسكري بمجهود سياسي مرافق.
وغالبا ما يردد المسؤولون الاميركيون ان تثبيت الوضع في العراق قبل الانسحاب الأميركي منه لم يكن ممكنا من دون الحلول السياسية التي توصل اليها العراقيون ابان الانسحاب.
لكن في قضاء الأسد والمالكي على معارضيهم المسلحين، من متطرفين وإرهابيين ومعتدلين، تغيب الحلول السياسية بالكامل. المالكي نفسه كان اول من نقض اتفاق أربيل الذي أعطاه ولاية حكومية ثانية والذي تم بعناية ورعاية مستشار نائب الرئيس جو بيدن حينذاك ونائب مستشارة الامن القومي اليوم انتوني بلينكن.
طبعا لم يحافظ المالكي على وعوده، ولم يجبره الاميركيون، الذين ضمنوا الاتفاق، الالتزام بتلك الوعود، وهو ما أدى الى توتر في العلاقات بين المالكي وكل من الكرد والسنة وبعض الأطراف الشيعية حتى من شركائه.
وكما في العراق، كذلك في سورية، لا يأبه المسؤولون الاميركيون الا لهزيمة الثوار السوريين من غير المعتدلين. الثوار المعتدلون تسهل هزيمتهم، فهؤلاء ممنوع عليهم الأسلحة، بحظر أميركي. اما الثوار من غير المعتدلين، فلا بأس ان اشترك المعتدلون وقوات الأسد وحتى «حزب الله» اللبناني، والذي تتناسى واشنطن انها تصنفه تنظيما إرهابيا، في الحاق الهزيمة بهم.
هكذا، تعتقد واشنطن ان هزيمة الفصائل السنية المسلحة عملية ضرورية وواجبة، اما الفصائل الشيعية، مثل «حزب الله» و«عصائب اهل الحق» وحتى الأسد، فممكن التوصل الى حلول معها بالحوار مع إيران، وهذا بيت القصيدة، وهو ما يعكس نظرية أوباما في مقابلته الشهيرة مع «بلومبرغ فيوز»، والتي قال فيها ان إيران تعرف ما تريده ويمكن التعامل معها والحوار معها، اما الأطراف الشرق أوسطية الأخرى، من بينها حلفاء اميركا، فتريد ان ترى اميركا في حالة حرب – وان كلامية فقط – مع إيران، من دون ان يكون لدى هؤلاء الحلفاء خطط إقليمية واضحة.
هذه هي سياسة أوباما في سورية والعراق ولبنان والشرق الأوسط عموما، وهي تقضي بالتقارب مع إيران وفي نفس الوقت القضاء على التنظيمات غير التابعة لنظام طهران.
من يفهم هذه السياسة يفهم لماذا استبقت واشنطن وصول وفد المعارضة السورية برئاسة احمد الجربا الى العاصمة الأميركية بإعلان تقديم مساعدات «غير فتاكة» بمبلغ 27 مليون دولار، ولماذا حرصت واشنطن على منح الائتلاف «صفة ديبلوماسية».
وعلى الرغم من ان هذه الصفة لا تعني الكثير، الا ان الإدارة الأميركية لا تفوت مناسبة من دون ان تكرر ان صداقتها بالمعارضة السورية صداقة سياسية وديبلوماسية فقط، وان اتجاه البنادق في سورية يكون ضد فصائل الثوار فقط. اما رحيل الأسد، فمن دون بنادق، بل باستجداء طهران وموسكو، ومع التأكيد على بقاء نظامه في حال رحيله.
هكذا، وجه السفير الأميركي السابق في سورية روبرت فورد في الماضي أصابع الاتهام في المأساة السورية الى غياب الوحدة لدى المعارضين السوريين، وعدم تواصلهم مع الأقليات، ولم يتطرق كثيرا الى اطاحة الأسد بعرض الحائط لمبادرتي بان كي مون والاخضر الابراهيمي، وعدم اكتراثه لقرارين صادرين عن مجلس الأمن بإحجامه عن تسليم 8 في المئة من ترسانته الكيماوية وعدم اقفاله معامل انتاجها، وبعدم سماحه دخول المساعدات الإنسانية.
اما الجربا وصحبه، فهم بدوا في أحسن احوالهم، وقدموا خطابات ومواقف موزونة، ولكن مواقفهم هذه هي خارج الاهتمام الأميركي، ما جعل استقبال واشنطن لهم استقبال رفع عتب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق