| واشنطن - من حسين عبدالحسين |
قبل أعوام قليلة، اشتكى البروفيسور الأميركي من أصل لبناني فؤاد عجمي من ألم في الجهة اليمنى من رقبته. اعتقد انه بسبب جلساته الطويلة على جهاز «آيباد» وأجرى فحوصات طبية، فتبين انه يعاني من مرض خبيث انتشر في عظمه. كان العام الدراسي لم ينته بعد، لكن عجمي أعلن تقاعده وحصر نشاطه بالكتابات الصحافية المتفرقة في كبرى الصحف الأميركية واطلالته على القنوات التلفزيونية.
عجمي كان انسانا متكتما على شؤونه الشخصية، ولكن أصدقاءه نقلوا عنه انه ابدى تجاوبا مع العلاج وتحسن كثيرا. والأسبوع الماضي، نشر عجمي آخر مقالاته في صحيفة «وول ستريت جورنال» اليمنية معلقا على احداث الموصل، وحمّل فيه الرئيس باراك أوباما ورئيس حكومة العراق نوري المالكي مسؤولية ضياع الإنجازات التي كافح الاميركيون من اجلها لتثبيت الوضع في العراق.
بعد أيام، ردد مقربون من عجمي ان وضعه يسوء وانه انتقل الى بيت صيفي له في ولاية ماين الشمالية ليقضي فيها آخر أيامه. وصباح اول من أمس، أصدر مركز أبحاث هوفر، التابع لجامعة ستانفورد المرموقة، بيانا أعلن فيه وفاة الأكاديمي، الذي شغلت اعماله وآراؤه رجال القرار والسياسة والثقافة في العاصمة الأميركية وعواصم أخرى.
ولد عجمي في بلدة ارنون الجنوبية اللبنانية في 19 سبتمبر 1945. كان يردد ان عائلته من أصول إيرانية وانتقلت الى الجنوب اللبناني بسبب اعمالها في زراعة وصناعة التبغ. مع حلول الخمسينات، انتقلت عائلته الى بيروت حيث درس في مدرسة «انترناشونال كولدج»، ولم يكد يتم الثامنة عشرة حتى انتقل الى الولايات المتحدة حيث اتم دراسته الجامعية، وتزوج الأميركية ميشال وأنجب منها.
كان عجمي يصف نفسه انه في زمن اقامته في بيروت، كان من المعجبين بالرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، ومع أواخر السبعينات وحتى منتصف الثمانينات، برز اسم عجمي كواحد من الاكاديميين الاميركيين من اصل عربي الذين أيدوا الثورة الفلسطينية وعارضوا السياسات الإسرائيلية، مثله مثل الاكاديمي الراحل من اصل فلسطيني ادوار سعيد. حتى ان شريط فيديو على موقع «يوتيوب» يظهر عجمي في العام 1978 يساجل شابا إسرائيليا من خريجي جامعة «ام آي تي» المرموقة يبلغ من العمر 28 واسمه بن ناتاي.
بن ناتاي اليوم هو رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو، وهو دخل في نقاش حاد مع عجمي حول حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم في مناظرة متلفزة في قاعة غصت بالحضور.
لكن «شهر العسل» بين عجمي والقضية الفلسطينية لم يدم. ربما هو الشعور الشيعي الذي ضاق ذرعا بالفصائل الفلسطينية المسلحة وممارساتها في جنوب لبنان في ما عرف بـ«فتح لاند» في ذلك الوقت، وهو ما وصل الى حد المواجهة بين «حركة امل» الشيعية، التي أسسها الامام موسى الصدر، وفصائل الثورة الفلسطينية.
وما يعزز فرضية اختيار عجمي هويته الشيعية على مناصرته للقضية الفلسطينية تأليفه كتاب «الامام المختفي» عن الصدر في منتصف الثمانينات، الذي قدم فيه سيرة حياة الصدر، وانتقاله الى لبنان، وصعوده، وتحريكه الشيعة سياسيا، حتى اختفائه في العام 1978.
وفي وقت لاحق، ابتعد عجمي أكثر فأكثر عن الخط العام للعرب الاميركيين الذين يلقون باللائمة على «الامبريالية» والسياسات الأميركية في المشاكل العربية. اما عجمي فصار أكثر تمسكا بفكرة ان احدى أكبر مشاكل العرب هي داخل بلدانهم ومجتمعاتهم، داعيا الى إصلاحها، وداعيا الغرب، خصوصا القوة الأميركية، الى لعب دور رئيسي في المساعدة في ذلك، وهو ما بدا جليا في كتابه «قصر أحلام العرب» في العام 1998.
هكذا، وجد عجمي نفسه في مواجهة مع سعيد وصحبه أدت الى خصام وافتراق، ووجد نفسه أكثر قربا وتماهيا مع التيار الذي يقوده البروفيسور الأميركي من أصل بريطاني برنارد لويس.
وعجمي، الذي يجمع قراؤه من الاميركيين والعرب، على انه يكتب نصوصه بأسلوب جميل ونادر، كان يتكلم الإنكليزية بطلاقة تشوبها لكنة عربية الى حد انه كان يقول «عرب» بدلا من «اراب»، وكان في اطلالاته المتكررة على محطة «سي ان ان»، خصوصا في الأسابيع الأولى التي رافقت اندلاع الثورات العربية، يقدم معلومات عن التاريخ العربي، ويكيل المديح للثقافة العربية، معتبرا ان تغيير بعض الأنظمة، ان عن طريق الحروب كما في العراق او الثورات كما في تونس ومصر وليبيا وسورية واليمن، سيعطي الشعوب الفرصة لإظهار أفضل ما لديها والعيش بحرية.
لكن تأييد عجمي لحرب العراق الثانية وضعه في مواجهة واسعة، لا مع غالبية العرب والعرب الاميركيين فحسب، بل كذلك مع التيار الأميركي اليساري الذي عارضها، ما وضع عجمي في قلب التحالف الجمهوري اليميني الذي خطط لها.
هكذا، كان عجمي يعرض في كل خريف لتلامذته في جامعة جونز هوبكنز، التي علم فيها لعقود حتى تقاعده، بطاقات معايدة شخصية من الرئيسين جورج بوش الاب والابن، وعجمي كان، اثناء ولايتي الابن، من أكثر المقربين للإدارة واركانها، وعلى رأسهم نائب الرئيس ديك تشيني ووزيرة الخارجية كوندوليزا رايس ومساعد وزير الدفاع بول وولفوفيتز. وكان عجمي من أبرز زوار البيت الأبيض على مدى سنوات حكم بوش.
لكن ما يؤخذ على عجمي في تأييده حرب العراق لم يدم، فهو كان من مؤيدي الضربة العسكرية ضد قوات الرئيس السوري بشار الأسد كذلك، وهو أمر كان يتمتع بتأييد غالبية عند العرب والعرب الاميركيين.
منذ الثمانينات، لم يزر عجمي لبنان، ربما خوفا على حياته، وهو ما حمل البعض على انتقاد ما اعتبروه تخليه عن جذوره، لكن ابن الجنوب اللبناني امضى جل عمره في اميركا، وتزوج أميركية، وانجب اميركيين، ما يجعله اميركيا اكثر منه لبنانيا.
لكن الراحل لم يستح بجذوره. كان يستمتع بشعر نزار قباني وبموسيقى ام كلثوم، ويكيل المديح للحضارة العربية امام محدثيه، خصوصا من الاميركيين. لم يكن عند عجمي مشكلة الدونية التي اتهمه بها البعض، لكنه لم يعتقد ان الجذور كانت تحتم على العرب ان ينطقوا بلسان واحد او ان يتشاركوا برأي واحد، وهو الامر الذي يبدو انه فات معظم منتقديه، من العرب كما من الاميركيين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق