حسين عبدالحسين
الصور التي تلت إعلان الاتفاقية النووية بين مجموعة دول خمس زائد واحد وإيران أظهرت المسؤولين الإيرانيين مغتبطين. يبتسمون. يلوحون. يتحدثون عن انتصار. في الجانب الأميركي، بدا كل المسؤولين متجهمين. حتى أوباما الذي أراد اعلان النصر في خطابه، بدا مقطب الحاجبين. أعضاء الكونغرس تناوبوا على توجيه الهجوم اللاذع على أوباما وصحبه. وزير الخارجية جون كيري فقد صوابه اثناء احدى مقابلاته التلفزيونية. صرخ في وجه المذيع بسبب إحباطه. واشنطن لم تستقبله بالورود، بل استقبلته بعاصفة من الانتقادات كالتي استقبل البريطانيون بها رئيس حكومتهم نيفيل تشمبرلاين بعد عودته من برلين حاملا ورقة اتفاق مع ادولف هتلر، زعيم ألمانيا، الذي لم يلبث ان أرسل دباباته لتحتل بولندا وتدوس على الاتفاقية مع البريطانيين والفرنسيين.
في السنوات الخمسة الماضية، بالكاد يمكنني ان أحصي عدد الأسئلة الكثيرة التي تلقيتها حول مصير المفاوضات النووية مع إيران. كنت أجيب ان الاتفاقية حاصلة من جانب الاميركيين، وانه إذا ما لم يتلقف الإيرانيون عرض أوباما، قد يندمون. من الواضح، لم يكن ما رددته سرا، فالإيرانيون كانوا يعرفون ما أعرفه، ولكنهم أرادوا تلقين أوباما – المغرور بقدراته وديبلوماسيته – درسا، فتلاعبوا به في ربع الساعة الأخير، وخبأوا أكبر مطالبهم حتى اللحظة الأخيرة، بعدما كانوا قبضوا المطالب التي صوروها “خطوطا حمراء” في الجولات السابقة.
وعلى مدى عشرين شهرا، كان الإيرانيون يحصلون على تنازل تلو الآخر من الاميركيين. في كل مرة، تصرف الإيرانيون وكأنه مطلبهم الأخير وكأن الاتفاقية كانت في المتناول، فتنازل الاميركيون، وفي كل مرة لم يصلوا لاتفاق. وأعاد الإيرانيون الكرة مرارا حتى يوم الجمعة الماضي.
مساء الخميس، قال وزير خارجية إيران جواد ظريف للصحافيين الاميركيين في فيينا ان الاتفاقية ستعلن صباح الجمعة. طار كيري من الفرح ودعا نظراءه للحضور الى فيينا للمشاركة في الحفل الختامي. ثم عندما اتصل كيري بظريف ليأخذ موافقته النهائية، استغرب ظريف الأمر وقال ان ما سمعه كيري هو “حديث صحافيين”، وان إيران مازالت متمسكة بآخر مطالبها، أي رفع حظر الأمم المتحدة الذي تفرضه على استيراد طهران للسلاح. غضب كيري وخرج الى الاعلام متمتما تصريحا متناقضا عكس ارتباكه وقال فيه ان المفاوضات مستمرة ولكنها لن تستمر الى الأبد. ثم، رأى أوباما ان الاتفاقية التي يسعى بيأس اليها كاد ان يقطفها، فقدم تنازلا جديدا. هذه المرة أدرك الإيرانيون انهم حصلوا على كل ما ارادوه، فسربوا لوكالة “اسوشيتد برس” ان اعلان الاتفاقية سيتم الثلاثاء، بعدما منح ظريف موافقته لكيري مساء الاثنين. واتصل كيري بأوباما الاثنين مساء، وأبلغه ان الاتفاقية حاصلة. واتصل أوباما بكبار أركان الكونغرس ليعلمهم بالأمر قبل ان يلقي خطابه صبيحة اليوم التالي.
أفلحت إيران. أثبت مسؤولوها ان بإمكانهم التلاعب بإدارة أميركية يقودها مراهقون في السياسة الخارجية من أمثال أوباما وكيري. ولشطارتها، ستحصل إيران على مقدم قدره 150 مليار دولار، وستعود مصدرة نفطية مع موارد محترمة ومع مقدرة على شراء الأسلحة على أنواعها، علنا. وقد يجد حلفاء إيران أنفسهم يعومون في “الفلوس”: بشار الأسد في سوريا وحزب الله في لبنان وأنصار الحوثي في اليمن.
لكن بذور انكسار إيران موجودة في انتصارها نفسه، فالمصالحة مع أميركا تعني انه لن يسع مرشد الثورة علي خامنئي وصحبه بعد الآن تحميل “الاستكبار” الغربي مسؤولية الفقر الذي يعاني منه الإيرانيون. فالأموال الإيرانية المتوقعة، على وفرتها، لن تغطي تكاليف مغامرات إيران التوسعية في الإقليم، مضافة الى انفاقها الحربي وفساد مسؤوليها.
هكذا، عندما يرفع العالم العقوبات عن إيران ويجد الإيرانيون انهم مازالوا يعيشون على الهامش الاقتصادي نفسه، قد يجد نظام إيران نفسه مهزوزا، وهو ما سيدفعه على الأرجح الى المزيد من المغامرات الخارجية والنووية لامتصاص النقمة الداخلية.
كذلك سيخرج أوباما من الحكم في أقل من سنة ونصف، ولا ضمانات للإيرانيين ان من سيخلفه سيتغاضى عن الممارسات الإيرانية، بل قد يلجأ الخلف الى سياسة معاكسة مع طهران، تماما كما شكلت سياسة أوباما نقيض سياسة من سبقوه. وقد يدفع الجفاء بين الرئيس الأميركي الجديد وإيران الى شعور جديد لدى النظام الإيراني بأن مستقبله متأرجح، وبأن أميركا تسعى الى تقويضه، فيدفعه ذلك الى الاستمرار سرا في البرنامج النووي وعدم الالتزام بالاتفاقية المذكورة.
منذ اليوم الأول للمفاوضات، بنى أوباما استراتيجيته على فتوى لخامنئي حرم بموجبها صناعة او اقتناء السلاح النووي. والفتوى المذكورة صدرت في العام 2003، يوم شعر خامنئي بالخوف بعدما رأى الجيوش الأميركية تقف على عتبة العراق لتغزوه. لكن بعد زوال خوفه، قامت إيران سرا ببناء منشأة فوردو النووية المحصنة، وخبأت اختباراتها النووية التسليحية في منشأة بارشين العسكرية.
لا شك ان تاريخ إيران، النووي على الأقل، يشي بإخفاء أمور والكذب في أخرى، وهو أمر اختار أوباما ان يتجاهله، ليضيف الرئيس الأميركي تجاهله نشاطات إيران النووية السرية الى جهله بأن الفتوى – في الإسلام وخصوصا الشيعي – لا تلزم الا مقلدي صاحب الفتوى، وان الفتوى هذه يمكن نقضها بفتوى مشابهة.
إيران فازت في هذه الجولة، ولكن في ظل تصرفاتها الماضية، من الصعب رؤية كيف يمكن لمكرها الديبلوماسي ان يعينها على الاستمرار في المماطلة والفوز، خصوصا يوم يحل مكان أوباما رئيس يفقه مكنونات السياسة الخارجية ويدرك تأثيراتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق