| واشنطن - من حسين عبدالحسين |
ليس في عواصم العالم المعنيّة فحسب، وانما داخل واشنطن كذلك، أحدثت الاتفاقية النووية مع ايران، ومازالت تحدث، تغييرات واسعة في المشهد السياسي. أصدقاء الأمس اصبحوا أعداء اليوم، والحلفاء صاروا متنافسين، فيما راح اللاعبون والمجموعات يبحثون عن اصطفاف سياسي جديد يعكس التغييرات الحاصلة والمتوقّعة.
من أبرز صور التغيير الاميركي الافتراق بين رجُليْن لمع نجماهما في العقد الماضي، أما اليوم، فيقفان في مواقع متناقضة. الجنرال السابق دايفيد بترايوس، بطل حرب العراق والمدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية «سي آي أي» والذي كان في طريقه الى الترشّح للرئاسة، لولا انكشاف علاقته الغرامية بصحافية، والسفير السابق والديبلوماسي المحنّك رايان كروكر، الذي خدم في دول عربية عديدة، كان ابرزها عراق ما بعد صدام، وحاز أرفع وسام رئاسي، قلّده إياه الرئيس السابق جورج بوش، عملا معاً وعن كثب، أثناء الاحتلال الاميركي للعراق بين 2003 و2011.
بترايوس كان قائد المنطقة الوسطى في الجيش الاميركي، وتالياً قائد الوحدات المقاتلة في العراق. كروكر كان سفير بلاده في بغداد، وتبين في وقت لاحق انه لعب دوراً خاصاً وسرّياً في عهد ادارة بوش، بتواصله مع الايرانيين والتنسيق معهم حول افغانستان وبعض الشؤون العراقية.
في جلسات الاستماع في الكونغرس في الاعوام 2007 و2008 و2009، جلس الرجلان في جلسة بعد الاخرى يستمعان الى المشرّعين ويدافعان عن السياسة الاميركية في العراق وضرورة بقاء قوة عسكرية فيه، وإنْ قليلة العدد، بعد الانسحاب الاميركي، للدفاع عن المنجزات، التي تمثّلت بتثبيت الاستقرار فيه.
وفي واحدة من الجلسات امام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، حضر المرشح السناتور باراك أوباما وشارك في الجلسة بإذن خاص، لأنه لم يكن عضواً في اللجنة. حينها، اقترح المرشح أوباما ان يقوم بترايوس وكروكر بلملمة الوضع العراقي، بالتي هي أحسن، والانسحاب منه، حتى لو لم يتحول العراق الى دولة ذات نظام ديموقراطي مقبول. وعندها، انبرى الرجلان للدفاع عن ضرورة تحقيق أميركا في العراق ما هو افضل من «التي هي أحسن».
اليوم يقف بترايوس وكروكر، وكثيرون من أمثالهما داخل الادارة الاميركية ومتقاعدون منها، على ضفتيْن متواجهتيْن، وبموقفيْن متخاصميْن. بترايوس يعتقد ان الاتفاقية النووية مع ايران سيئة، وكتب في افتتاحية مشتركة مع الديبلوماسي السابق ومسؤول ملف ايران في ولاية الرئيس باراك أوباما الاولى، دينيس روس، ان الاتفاقية الحالية مع ايران «تحتاج الى أسنان» حتى تصبح اتفاقية أفضل.
واقترح بترايوس وروس، في الافتتاحية التي نشرتها صحيفة «واشنطن بوست» ان «توجّه أميركا إنذاراً جدّياً الى ايران، انه في حال إخلالها بشروط الاتفاقية النووية، فإن ردة الفعل الاميركية لن تقتصر على الالتزام ببنود الاتفاقية لناحية إعادة العقوبات الاقتصادية الدولية على طهران عن طريق مجلس الأمن، بل سترد واشنطن بضربة عسكرية حازمة». واقترح بترايوس وروس ان «تزوّد واشنطن تل أبيب بقذائف مخترقة للتحصينات ذات زنة 30 ألف رطل، والقادرة على اختراق كل تحصينات المنشآت النووية الايرانية بما فيها (فوردو)، بدلاً من قذائف 11 ألف رطل، التي زودت أميركا إسرائيل بها، والتي لا تلبّي الحاجة في مهمة من هذا النوع».
وفي مقالة ثانية، في مجلة «فورين بوليسي»، ألمح بترايوس إلى أن «حرب التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد تنظيم (الدولة الإسلامية - داعش) متعثرة، ودعا الى العودة الى الإستراتيجية التي اعتمدتها أميركا بقيادته في العراق، أي التواصل مع العناصر الإسلامية، بما في ذلك مناصرين او مقاتلين في تنظيم (القاعدة)، ممن يمكن إبعادهم عن قلب التنظيم المتطرف، على غرار تواصل اميركا مع مقاتلي العشائر السنّية وتأليبهم ضد (القاعدة) ورعاية تشكيلهم لما عرف لاحقة باسم (قوات الصحوة)».
هذه آراء بترايوس. أما صديقه ورفيق مسيرته في العراق، أي كروكر، فدأب منذ خروجه الى التقاعد عام 2009 الى تبنّي مواقف مناقضة تماما لبترايوس. مثلاً، كان الديبلوماسي الاميركي من أول مؤيدي سياسة «الانخراط» مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد قبل اندلاع الثورة السورية في العام 2011. وحتى بعد اندلاع الثورة، ظل كروكر متمسّكاً بالأسد، ونشر افتتاحيات في كبرى الصحف الاميركية، دعا فيها بشكل مستمر الى المراهنة على الأسد، وإعادة العلاقات معه، والتعويل عليه لإلحاق الهزيمة بالتنظيمات المتطرّفة في سورية، وفي طليعتها «داعش»، وهو رأي يختلف تماماً عن نصيحة بترايوس لأوباما، اثناء عمله مديراً لـ «سي آي أي»، بتسليح الثوار السوريين ضد الأسد.
وكما تباين الرجلان في موضوع الحرب على التنظيمات المتطرّفة وعلاقة أميركا مع الأسد، تباين قائدا الاحتلال الاميركي في العراق، في موضوع الاتفاقية النووية مع ايران، وامكانية اعادة العلاقة معها. بترايوس، يدعو للمصادقة على الاتفاقية، مع تقويتها، عن طريق ربطها بعمل عسكري اميركي جدّي، في حال أخلّت إيران بأي من شروطها. أما كروكر، فكان من بين 50 ديبلوماسياً أميركياً سابقاً، ممن وقّعوا عريضة، وجّهوها الى البيت الابيض، وجاء فيها ان «الاتفاقية اختراق ديبلوماسي ونجاح يضمن تحقيق وحماية المصالح القومية للولايات المتحدة في الشرق الاوسط وحول العالم».
ومثلما يقف بترايوس وروس، وربما معهما سفير أميركا السابق في سورية روبرت فورد، والديبلوماسي المتقاعد فرد هوف، ضد الأسد، ويشكّكون في جدوى الاتفاقية مع ايران، يقف الى جانب كروكر جنرالات وديبلوماسيين سابقين من أمثال سفير واشنطن السابق في مصر فرانك ويزنر، والسفير السابق في إسرائيل توماس بيكيرنغ.
إذاَ، تساهم الاتفاقية مع ايران في اعادة رسم خريطة التحالف والمواقف داخل واشنطن، وهي عملية ماتزال جارية على قدم وساق، وحتى تنجلي نتائجها، قد تتضح معالم هوية الرئيس الاميركي القادم وشكل سياساته، خصوصاً الخارجية منها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق