الخميس، 24 أغسطس 2017

الفينقيون الجدد يستعيدون عنصريتهم

حسين عبدالحسين

تصريحان متناقضان صدرا عن قياديين من العنصريين البيض، بعد تظاهرة مدينة شارلوتسفيل الاميركية. رئيس حركة ”كو كلوكس كلان“ دايفد ديوك قال لتلفزيون اسرائيل انه ”صهيوني ابيض“ (على اعتبار ان جميع اليهود ليسوا من البيض، بل من داكني البشرة). اما الناطق باسم التظاهرة كريس كانتويل، فقال ان مشكلته مع الرئيس دونالد ترامب تكمن في ان الاخير زوّح ابنته ”الجميلة ايفانكا لليهودي الصعلوك" جارد كوشنر.

تناقض اليمين الاميركي العنصري حول اليهود واسرائيل يشبه التناقض لدى بعض الاسرائيليين، اذ تفادى رئيس حكومة اسرائيل بنيامين نتنياهو ادانة نازيي أميركا الجدد، ربما بسبب انحياز ترامب وبعض اليمين الاميركي لهم، فيما هاجم ابن نتنياهو يائير، ”معادي الفاشستية“ والاميركيين من اصول افريقية. لكن مواقف السيدين نتنياهو جاءت معاكسة، بل محرجة، لغالبية اليهود والصهاينة، حتى ان لوبي اسرائيل ”ايباك“ اصدر بيانا، نادرا من نوعه بسبب تعليقه على شؤون اميركية داخلية، ادان فيه العنصرية البيضاء والنازيين الجدد في أميركا.

في وسط هذه المعمعة العنصرية قفز عنصريو لبنان من ”الفينيقيين الجدد“، ممن يبدو انهم مازالوا يتمسكون بعلوم الماضي، مثل علم قياس الجماجم الوارد في كتاب ”نشوء الأمم“ لانطون سعادة، وهو علم حذفه ”السوريون القوميون الاجتماعيون“ في طبعة الكتاب الصادرة عن دار مصطفى طلاس.

ولم تسخر الاكاديميا وحدها من علم الجماجم واستخدام نقاشات جينية في شرح وتبرير تفوق مزعوم لأمم على أمم، بل سخر منها الادب الشعبي، مثل اللبناني زياد الرحباني، الذي قال في احد برامجه الاذاعية، متهكما، ان الراحلين الشاعر سعيد عقل والسفير شارل مالك كانا يجلسان قلقين في مختبرهما يبحثان عن الدم الفينيقي النقي.

لكن يبدو ان العنصرية عادت لتجدد نفسها بعيدا عن السخرية، هذه المرة عن طريق علوم دراسة التركيبات الجينية للأشخاص، فنشرت صحيفة ”نيويورك تايمز“ مؤخرا ان قبورا لكنعانيين في صيدا اظهرت ان التركيبة الجينية لسكان لبنان اليوم مازالت على ما كانت عليه منذ الاف السنين.

ومثلما كان الشاعر سعيد عقل واستاذ الادب العربي فؤاد افرام البستاني يثرثران عنصريا في امور لم يتخصصا فيها، يطلّ اليوم اكاديمي اميركي من اصل لبناني، متخصص في شؤون الرياضيات، مستعرضا آخر الابداعات الجينية، فيكتب ان ”اليونان كانوا قريبين (جينيا) من اليهود“، وان ”اللبنانيين بعيدون عن العرب“.

هكذا يعتبر نسيم طالب، بالاشتراك مع بيار زلّوعة، ان اليونان كانوا قريبين من اثنين جينيا: اليهود والآريين، اي الايرانيين والالمان. اما اللبنانيون، فتظهر دراسات الاكاديميين انهم كنعانيون فقط، وان في جينات اللبنانيين 10 في المئة من عروبة السوريين والاردنيين، و20 في المئة من عروبة الفلسطينيين. ويتابع الباحثان ان الفارق بين اللبنانيين (من كل الاديان) واليونان هو فارق لا يذكر، على عكس الفارق الكبير بين اللبنانيين والعرب من غير عرب المشرق.

طبعا المشكلة الاكبر في نظريات الاستاذين الفينيقيين تكمن في ان الجينات ليست عاملا انثروبولجيا يعتد به عند قياس تطور المجتمعات وعلومها وثقافتها، والدليل انه يمكن ان ينشأ عربي في ألمانيا، فيحمل المواصفات المجتمعية والعلمية وطبائع الالمان لا العرب، ويمكن له ان يتفوق بين الالمان، على الرغم من تركيبته الجينية العربية.

وعندما يستخدم طالب وزلوعة نظريتهما العنصرية للطعن برأي معلمنا الراحل، المؤرخ كمال الصليبي، حول عروبة الموارنة، لا يفطنان ان الصليبي لم يعتقد يوما ان لعروبة الموارنة، او عدم عروبتهم، تأثيراً في كيفية تطور مجتمعهم تاريخيا.

ربما على هذين الاكاديميين الفينيقيين ان يعلما ان التوراة تعتبر ان اليهود والعرب ساميون، وتنفي هذه الصفة عن الكنعانيين الفينيقيين، ولا شك ان النظرية التوراتية سببها العلاقات السائدة بين هذه المجموعات في وقت تدوين هذا الجزء من التوراة.

كما على صاحبينا الفينيقيين ان يحسما امريهما، فاذا كان الفينيقيون اوروبيين لا ساميين، لا مشكلة في ذلك، لكن العرب واليهود من الساميين، وكيفما ادار صاحبانا الاكاديميان علومهما الجينية، لن يعتبر الاوروبيون انفسهم ولا اليهود انهم ينحدرون من اجداد مشتركين، ولا ثقافة مشتركة، ولا تاريخ، ولا لغة.

حتى العرب، الذين تعتبرهم الدراسات الجينية التافهة عرقاً متجانساً، ليسوا كذلك، بل ان عرب الخليج تعرضوا تاريخيا لتأثير الهنود والفرس، فيما تعرّض عرب الحجاز وعسير لاختلاط مع المصريين والنوبيين والاثيوبيين. اما عمان، فكانت سلطنتها تمتد من شواطئ ايران في هرمز الى ساحل الصومال وزنجبار والنبط، مرورا بعمان وظفار. 

على ”الفينيقيين الجدد“ الاختيار في خزعبلاتهم الجينية بين اثنين: الاوربيين او الاسرائيليين. اما محاولة ربط الاوروبيين بالايرانيين بالاسرائيليين بالفينقيين، وابقاء العرب وحدهم خارج مجموعة الجينات التي يعتقدونها متفوقة، فهو من باب العنصرية البغيضة، التي من الاجدى لاصحابها التخلي عنها، والانشغال بما يعرفونه، وترك التاريخ لأربابه.

ليست هناك تعليقات:


Since December 2008