بقلم حسين عبد الحسين
على مدى العقد الماضي، ازدحم صندوقي البريدي على مواقع التواصل الاجتماعي برسائل من متابعين أزعجهم اسم عائلتي "عبدالحسين"، إذ تعتبر بعض المذاهب الإسلامية أن العبادة لا تجوز إلا للخالق وحده، وهو ما يجعل اسمي كفرا فاضحا.
هكذا، طلب غالبية المتابعين تغيير اسمي، وتراوحت رسائلهم بين حرصهم على مصلحتي — مشكورين — ورغبة في وقاية لي من نار جهنم، وبين اعتباري من "الروافض" وخوضهم في استهزاء وصل غالبا حد الشتيمة.
ولم ينافس من راسلوني في الوقاحة إلا من علّقوا على بعض مقالاتي المنشورة. حتى مقالاتي الكثيرة التي تضمنت انتقادات لإيران وحلفائها في المنطقة، لم يكلّف بعض المعلّقين عليها أنفسهم عناء قراءتها، بل التفتوا إلى اسمي فقط، وعلّقوا بالقول إن مواقفي مفهومة لأني "رافضي" أحب إيران و"جماعتي" الشيعة، وأكره أهل السنة، مع أن مقالاتي كانت فعليا ضد "جماعتي" المزعومة.
أما الفئة الثالثة من المتابعين والمعلقين على مقالاتي، فكانت الأكثر إنصافا، وقرأت نصوصي، ولكنها مع ذلك لم تبنَ على موقفي، بل أسعدها ما كتبته لأني من الشيعة ممن يهاجمون إيران، على قاعدة "شهد شاهد من أهلها".
حتى بعد عقدين من انتقاداتي لإيران، إن وجدتني يوما أنتقد خصومها، يصبح التفسير الوحيد عند هؤلاء الخصوم هو "نزعتي الشيعية" المزعومة التي أملت كتابتي وموقفي.
على مدى عقدين من الانخراط الإعلامي والكتابة، أضنتني استحالة خروج غالبية العرب من العصبيات التي يغرقون فيها، وإصرارهم على تصنيفي، في السياسة، وتصنيف أمثالي بحسب أسمائنا أو هوياتنا، بغض النظر عن أفكارنا أو ما نقوله أو نكتبه. حتى ما نكتبه يتحول مادة في الشتائم بين العصبيات المتناحرة، بدلا من أن يتحول إلى جزء من حوار أو نقاش بناء.
هذه الثقافة السائدة تدفع المجموعات إلى حب الانتصار، بدلا من حب العدالة، وهي تجعل من المستحيل الانخراط في نقاش خارج العصبيات القائمة في دنيا العرب والفرس. والنقاش الحالي يأتي في نموذجين، مديحا أو هجاء، وهو ما يعقّد من مهمة الباحث، ويجعل من الموضوعية أمرا مستحيلا.
يوم أعلنت الولايات المتحدة "عملية حرية العراقيين" في عام 2003، كنت أول من هللوا للحرب. اعتقدت أن أمام العراق فرصة ذهبية للانتقال من عقود من الطغيان إلى الديموقراطية. كثيرون آخرون هللوا لحرب أميركا في العراق، لكنهم لم يهللوا استبشارا بالديموقراطية، بل لأنهم من الشيعة ممن رأوا فرصة في الانتقام من صدام حسين والسنة وتولي الحكم بدلا منهم.
لم يكن إعدام صدام عدالة وفتح صفحة جديدة بين العراقيين، بل كان انتقام "حزب الدعوة" الشيعي من جلاّده السني، وانتقام أبناء محمد محمد صادق الصدر من الرئيس العراقي الراحل. لم يصرخ من أعدموا صدام اسم العراق، ولا قالوا عدالة أو ديموقراطية، بل صرخوا "مقتدى، مقتدى، مقتدى"، فانتقل العراق من عصبية وزعيم أبدي إلى عصبيات وزعماء أبديين آخرين.
في العراق، تعلمنا أن الديموقراطية بحاجة إلى مواطنين، وأن العراقيين عشائريون، يتصرفون كقبائل ترى في الدولة وخيراتها غنائم، ولا ترى نفسها صاحبة هذه الدولة أو مسؤولة عن حسن سيرها، ولا يعتقدون أن من تعافي الدولة يأتي تعافي المواطنين، أو العكس.
وزيادة في الطين بلة، نسخ الحكم الأميركي في العراق نموذج لبنان، الذي ينص على التعايش بين طوائفه، بدلا من المساواة بين مواطنيه.
ثم وصلت رياح الديموقراطية لبنان. قلّة قليلة من اللبنانيين خرجت من العصبيات الطائفية والقبلية في محاولة بناء لبنان ديموقراطي جديد. أما الغالبية، فغرقت في هوياتها الجماعية، و"أقسمت" على التعايش بين العصبيات المتخلفة.
بعد لبنان والعراق، وصل الربيع سورية. كنا نعرف أن مصير ديموقراطية سورية لن يكون أفضل مما كان في العراق ولبنان، لكن الضمير يملي الانحياز إلى الحرية في وجه أي طغيان. في أسابيع قليلة، تحول السوريون إلى أقليات من العلويين والمسيحيين، وإلى غالبية من السنة، وانخرط الجميع في صراع جعله الأسد دمويا أبعد من أي تصور.
هكذا، قلّما تمحور صراع سورية حول الأفكار عن الحكم وضرورة تحقيق المساواة بين المواطنين والعدالة، بل تمسك كل فريق بهويته الطائفية والقبلية، وصار التعايش بين العصبيات سبيلا وحيدا لوقف القتال، وانعدمت فرص الديموقراطية بسبب الغياب التام للمواطنية.
لكن من يظنون أنفسهم من المواطنين بين العرب لم يستسلموا، فهم خرجوا من قبائلهم، ولا عودة لهم إليها أو لمشاريع التعايش بينها. هؤلاء المواطنون العرب تمسكوا بالعدالة سبيلا وحيدا للمساواة بين الأفراد، وبالديموقراطية سبيلا وحيدا لحكم الأكثرية، لا لاضطهاد عصبية واحدة لعصبيات، لأن في دول المواطنين، لا أكثريات ولا أقليات ثابته حسب الهوية، بل أكثريات وأقليات متحركة حسب برامج الحكم وأداء الحكام، وهو ما يجعل المواطنية والديموقراطية السبيل الوحيد للأمن والسلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق