حسين عبدالحسين
عجيب أمر هذه القوة العظمى التي تتأرجح سياساتها بين استخدام قوتها العسكرية الجبارة لنشر الديموقراطية في دول العالم بين يوم وليلة، وبين وقف تمويل البرامج، التي تديرها وزارة الخارجية الاميركية، والتي تهدف الى ارساء المبادئ والثقافة التي يمكن لدول العالم بناء ديموقراطياتها عليها.
في ولاية الرئيس السابق جورج بوش الابن، قدمت واشنطن الى دول العالم خياراً واحداً: الديموقراطية أو نجتاحكم. في ولاية الرئيس دونالد ترامب، تحول الخيار الاميركي لشعوب العالم إلى التالي: موتوا لا تهمنا ديكتاتورياتكم؛ وبموجب السياستين الاميركيتين، كانت النتيجة واحدة: دماء وخراب ودمار.
على مدى السنوات الماضية خلال عهد الرئيس السابق باراك أوباما، التزمت أميركا بسياسة واحدة تجاه دول العالم، وهي سياسة قضت بتفضيل الاستقرار على الديموقراطية، كما في موقفها من الربيع العربي، إذ لم تتخل واشنطن عن رئيس مصر السابق حسني مبارك الا بعد تلقيها ضمانات من الجيش المصري بالامساك بالأمن، ولم تتخل الولايات المتحدة عن الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي الا بعد ضغط أوروبي وقرار دولي. أما الرئيس السوري بشار الأسد، فلم تتخلَ عنه ادارة أوباما يوماً، ولم تتخل عنه حكومة ترامب حتى اليوم.
لكن شتان ما بين التمسك بالاستقرار والابقاء على برامج دعم الديموقراطية، بالتزامن مع اتخاذ واشنطن لمواقف تدين وتشجب الممارسات الديموقراطية حول العالم، وتخلي الولايات المتحدة في عهد ترامب عن فكرة ومبدأ الديموقراطية من أساسها.
ربما هي العنصرية الفاقعة لدى بعض مستشاري الرئيس ممن يعتقدون ان الديموقراطية لا تليق الا بالغرب المتقدم، وانها لا تلائم الشرق — خصوصاً الاوسط — المتخلف. ربما هذه العنصرية هي التي دفعت الحكومة الاميركية الى التراجع عن مبدأ دعم الحركات الديموقراطية الفتية حول العالم.
ربما هو الدين السري الذي يدين به ترامب لنظيره الروسي فلاديمير بوتين، وهو الدين الذي يملي على ترامب تبني موقف بوتين المعادي للديموقراطية بالمطلق، أينما وجدت. أما نتيجة التقاعس الاميركي، والغربي عموماً، عن دعم الديموقراطيات والديموقراطيين حول العالم، فهي لا تقتصر على تحوّل ربيع العرب خريفاً وسيل الدماء العربية على ايدي الطغاة العرب، بل تشمل تراجع الديموقراطية في دول ذات ديموقراطيات فتية، مثل بولندا، التي رأت في مديح ترامب لنظامها فرصة للانقضاض على القضاء، لولا انتفاضة الشعب البولندي، الذي أعطى في الماضي الثورات اسم الربيع، فأجبرت تظاهرات البولنديين الاخيرة حكامهم على التراجع عن قوانين تقويض العدل والديموقراطية.
ليست الدول العربية وروسيا هي وحدها ضحية الحملة الاميركية ضد الديموقراطية في العالم، فالصينيون، الذين لجأوا الى بعض الاساليب للتخفيف عن اطباق حكومتهم على خناقهم، وجدوا انفسهم وحيدين امام مقص الرقابة الصينية. هذه المرة، لم يكن ترامب هو من تراجع عن دعم الديموقراطية والديموقراطيين في الصين، بل قامت بذلك كبرى الشركات الاميركية، أي آبل وغوغل، بعدما أغلقت أبوابها في وجه تقنية تجاوز رقابة الصين على الانترنت. وفي هذا السياق، صرّح تيم كوك، رئيس شركة آبل، أن شركته قررت "الالتزام بالقوانين الصينية".
لم يعد نشر الديموقراطية عملاً نبيلاً وشجاعاً يسيطر على مخيلة الغربيين ويحوز تعاطف حكوماتهم. أصبح أسرى الرأي في سجون دمشق والقاهرة وغيرها مجرد ناشطين لا وجوه لهم، ولا أسماء، ولا عائلات. وحدهم بعض المواطنين الغربيين ممن اختطفتهم مجموعات متطرفة أو قتلهم نظام العسكر مازالوا يحركون الوجدان العالمي. أما أن يموت أسرى سوريون في معتقلات الأجهزة الامنية اللبنانية، أو أن يموت أبرز ناشط سوري مدافع عن الديموقراطية في أقبية موت الأسد، فتلك أحداث عابرة إما تمر في شريط الاخبار في اسفل الشاشة، الى مثوى الموتى النهائي، أو لا تمر أبداً، فيما يمضي ترامب في نزع آخر ورقة توت متبقية عن عورة الغرب بمحاولته وقف تمويل البرامج الاميركية الداعمة للديموقراطية، على الرغم من بساطة هذه البرامج وهامشية تأثيرها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق