الثلاثاء، 24 يناير 2017

من يغيّر من: أميركا أم العالم؟

حسين عبدالحسين - واشنطن

لم يكن انتخاب دونالد #ترامب رئيسا للولايات المتحدة أكثر من صدفة فاجأته قبل غيره، فهو فاز بمجموع ثمانين الف صوت في الولايات المتأرجحة، من أصل ١٣٥ مليون صوت اميركي في عموم البلاد، فيما خسر التصويت الشعبي بقرابة ثلاثة ملايين صوت. فوز ترامب يستكمل المرحلة الثانية من امتحان علاقة الولايات المتحدة بالعالم.
مع نهاية الحرب الكونية الثانية، تصورت أميركا نفسها حاملة، وحدها، مشعل مبادئ التنوير كدولة تتمتع بحرية وديموقراطية وعدالة، وتصورت ان مهمتها هو نشر هذه المبادئ الحضارية. لم تكن الرؤية الاميركية جديدة، بل كانت استكمالا لقرنين من الفكر الاوروبي الذي رأى الغرب اصل الحضارة البشرية ورائدها، مع مهمة تطوير باقي الحضارات البربرية، وتثقيف شعوبها، وتحديث انظمة حكمها. ومع نهاية الحرب الباردة "والتاريخ"، بحسب التصور الاميركي، وقفت الولايات المتحدة وحدها قلعة الحضارة والفكر السامي، الى ان امتحنتها هجمات ١١ ايلول ٢٠٠١. لم تقارع أميركا الظلاميين بالتنور، بل انقضت عليهم باستبدادية تشبه بربريتهم، وافتتحت معتقلات مظلمة في انحاء المعمورة، وعذّبت الناس في السجون، واحتلت دولا، وأطاحت بجيوش وحكومات. لم تتفوق حكمة أميركا على قوتها، بل ظهرت أميركا كأي دولة قروسطية، خائفة من خصومها، مشككة في مبادئها، وباطشة بأي من تشتبه بهم. هكذا أقامت ادارة الرئيس السابق جورج بوش الابن أكبر وزارة داخلية في العالم، واستنبطت اساليب للالتفاف على قوانينها المخصصة لحماية الحريات الفردية، مثلا، طلبت الاستخبارات الاميركية من حليفتها ونظيرتها البريطانية التجسس على المواطنين داخل الولايات المتحدة، ثم تسليم المعلومات لواشنطن، وهو ما قضى على القوانين الاميركية من دون ان يخرقها. ومع الغضب الاميركي، طفت العنصرية الى السطح، وسادت معاداة المسلمين، ومعهم حتى المسيحيين من المهاجرين من أميركا الجنوبية.
الرئيس باراك أوباما تسلق الى القمة على ظهر النقمة الشعبية ضد حربي العراق وافغانستان، فاعتقد هو - والعالم معه - ان أميركا استفاقت من ظلاميتها واستبدادها الأمني، ليتبين ان الاموال الطائلة التي انفقها الاميركيون على بناء اجهزة استخباراتهم حولت هذه الاجهزة الى ما لم يكن بمقدور أوباما، حتى في عزّ شعبيته، مواجهته. مثلا لم يحاسب أوباما من قاموا بالتعذيب في غوانتانامو او من اتلفوا فيديوهات التحقيق والتعذيب في معتقلات "وكالة الاستخبارات المركزية" (سي آي اي) حول العالم. وزاد في القلق الشعبي الاميركي بلّة سذاجة أوباما الشديدة في شؤون السياسة الخارجية، فبدت أميركا ضعيفة في الخارج، ما عزز من ربط الاميركيين لمبادئهم التنويرية مع الضعف، فصعد شعبويون شبه أميين مثل ترامب الى القمة، حتى لو أن ترامب تأخر في شعبيته عن النصف باثنين في المئة.
في رحلة عودتها الى العصور الظلامية، عادت أميركا الى ما قبل حربها الاهلية، فركب اغنياؤها ومحتكرو اسواقها موجة العنصرية، وخبأوا جشعهم الرأسمالي خلف الشعارات الشعبوية، مثل معاداة المسلمين والمهاجرين والسود والفقراء عموما. ويكاد يستعصي على اي مراقب ان يفهم كيف يمكن لغالبية البيض الاميركيين، وهم من اصحاب الدخل المتوسط والمتدني، ان يتباهوا بالقضاء على برامج الرعاية الاجتماعية التي أقرّها أوباما، مثل الرعاية الصحية. اما الاجابة الارجح فتكمن في كراهية البيض المطلقة لغير البيض، وفي طليعتهم الرئيس الأسود أوباما، وهو ما يعني ان ترامب والكونغرس الجمهوري سيعدلون برنامج الرعاية الصحية بشكل طفيف كاف لازاحة سم أوباما عنه من دون تغيير فعلي في بنيه القانون، ربما للقضاء على سابقة ان أميركي أسود ادار البلاد بشكل فعّال، وهو ما ينسف نظرية البيض ان شقاء السود سببه كسلهم وتقاعسهم عن الكدّ والعمل.
الولايات المتحدة اليوم في المرحلة الثانية من ردة فعلها على نهاية الحرب الباردة والتاريخ، وتوسع العولمة، وهجمات ١١ ايلول. لم تنجح أميركا في امتحانها الاول في الابقاء على ديموقراطيتها، بل اقامت دولة جاسوسية عملاقة. امتحان أميركا الثاني هو في مواجهة، لا ترامب وحده، بل الموجة التي ترافق صعوده وتحمل اصحاب مليارات وجنرالات، وهي طبقة تتماهى مع طبقات مشابهة حول العالم. أميركا تحاول دخول نادي الدول التي تنحصر فيها السلطة بأصحاب المال وكبار المسؤولين الامنيين، وهي بذلك تستورد نموذج الحكم السائد في العالم، في دول مسيحية مثل روسيا، او اسلامية مثل تركيا وايران، او يهودية مثل اسرائيل، او بين بين مثل مصر، بدلا من تصديره نموذجها الديموقراطي في الحكم وتداول السلطة سلميا.
لكن غالبية الاميركيين تعارض تحويل واشنطن الى ما يشبه موسكو او القاهرة، اذذاك تندلع مواجهة بين الاميركيين المعارضين للاستبداد، والاقلية المستبدة التي تستعين بأقرانها في موسكو والقاهرة وتل ابيب وغيرها، فيكتب احد اركان "المحافظين الجدد" بيل كريستول انه يخشى ان يهاجم ترامب ايقونة النضال من اجل الحقوق المدنية، عضو الكونغرس الاسود جون لويس، أكثر من مهاجمته غريم أميركا التقليدي رئيس روسيا فلاديمير بوتين.
الاميركيون الذي أعلنوا بدء "المقاومة" في وجه ترامب قد يكونون آخر من تبقى في مواجهة تحالف المال والأمن حول العالم، خصوصا اذا ما نجح تحالف بوتين وترامب في قلب حكومات اوروبا الليبرالية المتبقية في الانتخابات المرتقبة في المانيا وفرنسا هذا العام. ستسعى "المقاومة الاميركية" الى استعادة الحكم من ظاهرة ترامب، وهي حتى لو نجحت في ذلك، فهي ستحتاج الى وقت طويل لاعادة بناء الديموقراطية الاميركية قبل ان تعود الى قيادة العالم في اتجاه التنوير، كما كانت اعلنت في العقد الاخير من القرن الماضي. وحتى تستعيد أميركا توازنها، وهو أمر ممكن خصوصا بالنظر الى التأرجح الحتمي في المزاج الشعبي، ستدخل أميركا نادي "الامبريالية المركنتيلية"، وسيسعى محتكرو أميركا، بالشركة مع محتكري روسيا، في حصد ثمار الاحتباس الحراري الذي كشف عن مساحات شاسعة لاستخراج النفط في محيط القطب الشمالي. لكن التاريخ، ان يعلمنا شيئ، فهو ان المحتكرين غالبا ما ينقلبون على بعضهم البعض، ويأخذون العالم الى مواجهات كبيرة وصغيرة، ويهتز العالم مجددا، على أمل ان يخرج من اهتزازه المقبل في اتجاه العودة الى رشده الذي يلي عادة الاهتزازات الكبرى.

ليست هناك تعليقات:


Since December 2008