حسين عبدالحسين
بعد اعلان الصحيفة الطلابية “اوتلوك” منع ادارة “الجامعة الاميركية في بيروت” صدورها، انهمرت علي الرسائل من اصدقاء كثر طلبوا ان ادلو بدلوي حول تجربتي في رئاسة تحرير هذه الصحيفة قبل عقدين من الزمن، وانخراطنا يومذاك في مواجهة مع الادارة الماضية، بعد قيام الاخيرة بمنع صدور عدد او اكثر، اعتراضا على مضمون ما كنا ننوي نشره.
في ذلك الزمن، حصلنا على تقرير سري حول بحث كانت مولته ادارة الجامعة لتقييم ادائها الاكاديمي. جاء في التقرير ان بعض الكليات كانت تشكو من المحاباة في مكاتب عمدائها، وان الدكاترة كانوا يعانون من انخفاض في المعنويات بسبب تلك الاساليب الملتوية. قرأ رئيس الجامعة مقالتنا المفصلة حول الموضوع، التي حملت عنوانا تساءلنا فيه ان كان على عميد كلية الاداب والعلوم الاستقالة، وعينّ لقاء، قال لي فيه: انا عينته، واذا كنت تريد استقالته، فعليك ان تطالب باستقالتي. ثم اضاف بلهجة الأمر: اقتل المقالة. وكان ذلك.
مرت اسابيع، استضفنا بعدها في مكاتب الصحيفة ندوة لممثلي الاحزاب في الجامعة حول رأيهم بالوجود السوري في لبنان. جاء رد غالبيتهم سلبيا، وطالبوا بالانسحاب. هذه المرة، ادعت ادارة الجامعة ان ترخيص “اوتلوك” ليس سياسيا، وان علينا سحب المقالة. لكن عددنا الاسبوعي كان قد عاد من المطابع، فامضينا في التحرير يوما او اكثر ونحن نمزق صفحة المقالة، ووزعنا الجريدة ناقصة صفحة، وهو ما اثار حفيظة رئيس الجامعة، فأمعن في ضغوطه الرقابية علينا، فخرجنا الى الاعلام اللبناني انتقاما، ونشرت “النهار” المقالة حول التقييم الاكاديمي السري، فزار وفد من قيادة الجامعة ناشر “النهار” الراحل غسان تويني، وهو كان عضوا في مجلس الأمناء، وطالبوه بحظر اي مقالات قد تأتي من ناحيتنا.
هذا بعض من تجربتنا في النضال من اجل حرية الرأي في “الاميركية” ولبنان. للانصاف، لا بد من القول ان ادارة الجامعة كانت بدورها تخضع لضغوط هائلة من استخبارات رئيس سوريا حافظ الأسد، الذي كان يحكم لبنان، وقال لنا مرة قيادي غير لبناني في الجامعة، اثناء اجتماع الحكومة الطلابية، ان تفجير مبنى “كولدج هول” كان جزء من الصراع بين الأسد وطهران على الامساك بلبنان، وهو صراع حسمه الأسد الأب لمصلحته بعدما قتلت القوات الامنية متظاهري “حزب الله” على طريق المطار. وقال لنا القيادي يومها انه بعد سيطرة الأسد، مرت سيارة “بيجو” عليها صور الأسد، والقت اصابع ديناميت من فوق سور الجامعة. لم يتأذ احد، لكن رسالة دمشق وصلت ادارة الجامعة: بيروت في عهدة استخبارات الأسد.
اليوم انحسرت ضغوط استخبارات الأسد، وحلّت ادارة في “الاميركية” اكثر شبابا وتحررا من سابقاتها، فالادارة في زماننا كانت من مخلفات الحرب الاهلية، وابقت على تعاملها مع القيادات الطلابية على ما هو عليه في زمن الحرب، لناحية منع الحريات على انواعها كنوع من النأي بالنفس وتحييد الجامعة عن الصراع اللبناني.
لكن بدلا من ان يفيد طلاب اليوم من اتساع صدر الادارة ومساحة الحرية في الجامعة، تحولت غالبية القيادة الطلابية — ربما متأثرة بثقافة لبنان والمنطقة المعادية للحرية عموما — الى جلاّد بحق الآخرين.
دكتور السوسيولوجيا سمير خلف، صاحب اجمل مقولة في كتابه عن الحرب اللبنانية يتساءل فيها “ما الأهلي في الحرب الأهلية اللبنانية؟” خلف ينتمي الى جيل كانت فيه “الاهانة على المونة”، خصوصا عندما تأتي الاهانة من الاكبر عمرا بحق الأصغر. اعترضت تلميذة في صفه انها لا تسمعه، فقال انها لو رفعت الخرقة البالية التي تلف رأسها بها لأمكنها سماعه. ثارت ثائرة الطلاب. تظاهروا. رفعوا لافتات كتبوا عليها “حجابك أغلى من دمي”. طالبوا بطرد خلف، الذي اعتذر بدوره، ثم استقال، بعد “هذه الكبرة”، وهو اصلا في عمر التقاعد. ومن لا يعرف خلف، فهو كان من اكثر الاصدقاء قربا للمفكر الفلسطيني الراحل ادوار سعيد، صاحب كتاب “الاستشراق”. وسبق لخلف ان كتب مقدمة احد كتب سعيد.
لكن الزمن لم يعد زمن النضال الشاق، ولكن الانيق والمثقف في الوقت نفسه. صارت للحرية في “الجامعة الاميركية في بيروت” لافتات تنادي بالدم والثأر، وصار رئيس الحكومة الطلابية يزور “مجلس النواب”، ويلتقي رئيسه ليهديه الانتصار الانتخابي، في مشهد لا تكفي السطور لوصف بشاعته القبلية وتخلفه ورجعيته.
تصفحت مقالات “اوتلوك” بحثا عن مقالة او اكثر قد تكون اثارت حفيظة ادارة الجامعة كما في زماننا، فوجدت مقالات اثارت حفيظتي: واحدة تمجّد الايراني الراحل روح الله الخميني وتعتبر فكره منارة لتحرر المرأة. مقالة ثانية تعتقد ان ادارة الجامعة لا تحمي حرية الرأي لأنها لا تقوم بأي جهد “لتحسين القضية الفلسطينية”. اين هي مبادئ تحرر الشعوب وحرية المرأة وحرية الرأي التي خضنا مواجهات مع الادارة من اجلها؟
في “الجامعة الاميركية في بيروت” اليوم حرية كبيرة، ولا احرار، بل جلادين تابعين فكريا وقبليا، يرددون شعارات ثأرية ودموية، ويطيحون بأكاديميين ساهموا في صناعة فكر ثوري عربي انيق، ويسعون لاستبدالهم بمثقفي المدونات ودكاترة نظريات المؤامرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق